البعد الإفريقي وسؤال التنمية يأتي هذا المقال في سياق الأنشطة والفعاليات المنظمة تخليداً للذكرى 68 لليوم الوطني للمقاومة والذي يقترن باستشهاد البطل محمد الزرقطوني والذكرى 66 للوقفة التاريخية لبطل التحرير والاستقلال المقاوم الأول جلالة المغفور له الملك محمد الخامس طيب الله ثراه على قبر الشهيد، وهي الذكرى التي نخلدها يوم 18 يونيو 2022 وترتبط بنفس اليوم الذي استشهد فيه المقاوم والشهيد محمد الزرقطوني يوم 18 يونيو 1954 ويمثّل نقطة مضيئة في تاريخ المقاومة المغربية، نستحضر اليوم تحولات المقاومة وتجلياتها في السياق الجديد الذي نعيشه. إن التعريف بأمجاد أمتنا بتخليد أحداثٍ من تاريخنا الحافل بالمواقف الشجاعة، يمثل ضرباً من الوفاء للأبطال وإحياء ذكرهم في الوجدان، وتأتي مقاومة الاستعمار، حتى النصر أو الاستشهاد، على رأس تلك المواقف العظمية، تلك المقاومة التي كانت شرسة وبطولية قلّ نظيرها في أرجال المعمور، ويكفي أن نستحضر هنا أن بعض الدول بقي الاستعمار فيها عدة قرون قبل نيل استقلالها، ودول بجوار المغرب بقي الاستعمار فيها أزيد من مائة عام، فهذه الجزائر عانت من الاستعمار الفرنسي قبل استعمار المغرب وبعده، إذ بقي فيها الاستعمار 125 عام، وهذه السنغال في ربوع إفريقيا بقي فيها الاستعمار 300 سنة، هذه المُدد الطويلة تؤكد قيمة المقاومة وأهمية الممانعة الشعبية في طرد المحتل. ولذلك يحقّ للمغاربة اليوم الافتخار باليوم الوطني للمقاومة، لأنه علامة حياة، وقوة قلب، ووحدة شعب، ووفاء عرش، ونضال أمّة بكل مكوناتها وطبقاتها ومستوياتها، أدهشت العالَم ببسالتها وشجاعتها فكان المغرب بحقّ أرض الحرية والأحرار، وأرض البطولات والأمجاد، فلا غرابة أن تدل كلمة أمازيغ على الأحرار، وكذلك كان، ويكفي الاطلاع على كتب الرحالة الأجانب الذين زاروا المغرب وكتبوا عنه، كيف عبّر هؤلاء المستكشفون عن إعجابهم بشجاعة المغربي رجلا أو امرأة أو حتى طفلا. تلك المقاومة التي أصحبت جزءاً من هوية المغاربة ولم تعد مرتبطة بسياق تاريخي معين أو ظروف محدّدة، بل تواصلت المقاومة المغربية في مجالات أخرى عديدة، وعلى رأسها محاربة الجهل والتخلف من أجل بناء مغرب معاصر منفتح ومؤثر في محيطه، ولا يتحقّق ذلك إلا بتنمية الرأسمال البشري، والمتمثل في الشباب المغربي الذي يمثّل ثلث سكان المغرب، وهو الجهاد الأكبر كما أشار إليه فقيد الأمة الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، عندما قال: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، حيث يقصد جهاد التنمية والتحديث، الذي لا يتوقف، سواء تنمية الإنسان أو تنمية المجال، وهو ما ظهرت ثماره في السنوات الأخيرة؛ وبرهنت على عبقرية ملك وبُعدِ نظره، ويتعلق الأمر بسياسة بناء السدود ومدّ القناطر والجسور وتشييد المدارس والجامعات وتعزيز دولة الحق والقانون والمؤسسات، ثم توجت هذه الثمار بما بلغه المغرب في عهد أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، من مكانة مرموقة بين الدول، وخاصة في إفريقيا، التي خصّها جلالة الملك حفظه الله بكثير من رعايته واهتمامه، فكان من ثمرات جهوده؛ عودة المغرب إلى بيته الإفريقي بشكل رسمي، وانتزاع الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، من لدن القوى العظمى، حيث تسابقت الدول لافتتاح قنصلياتها في مدينتي العيون والداخلة بصحرائنا المغربية، لتتواصل المقاومة؛ مقاومة كل أشكال التقليل من نجاحات المغرب، في وقت أعلنت فيه بعض الدول عن إفلاسها، ودخولها في أزمات داخلية، نرى المغرب يصمد أمام كل التحديات الدولية ويحقّق التوازن الاقتصادي والتماسك الاجتماعية والتألّق الدبلوماسي وخاصة في ربوع الصحراء المغربية، وفي صياغة وتنزيل النموذج التنموي الجديد، الذي بدأت معالمه تظهر في الميدان في مجالات متعددة كالصحة والتعليم والبيئة والسكان والهجرة والبحث العلمي.. بإقرار إصلاحات كبرى، وتعديل قوانين، تمنح الكفاءات الوطنية قيمتها، وتعيد الاعتبار لمكونات المغرب الثقافية والعرقية، بتوفير فرص جديدة للعمل والإنتاج وتدبير الاختلاف، وخاصة عند فئة الشباب التي تحظى برعاية مولوية خاصة، إذ ما فتئ جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، يطلق المبادرة تلو المبادرة لدعم الشباب المغربي، انطلاقا من مراكز تكوين وتأهيل وإدماج الشباب، والمراكز السوسيو-تربوية، والمركبات السوسيو-رياضية، وفضاءات التكفل بالشباب الذي يعاني من سلوكات الإدمان، مرورا بالفضاءات الموجَّهة للتكنلوجيات الجديدة للمعلومات والاتصال، وإنعاش الأنشطة المدرة للدخل، إضافة إلى برامج دعم الولوج إلى تمويل الشباب حاملي المشاريع، إلى غير ذلك من البنيات الأخرى، وتجسد هذه المبادرات والإجراءات المقاربة الملكية وسياسة القرب، من أجل تنمية بشرية شاملة ومستدامة. أما البعد الإفريقي في المقاومة المغربية فيتجلى في الدور الريادي الذي يقوم به المغرب حالياً في إفريقيا، عبر دعم مبادرات السلام والتعايش والحوار، وحماية الهوية الإفريقية من كل التيارات الدخيلة، وأيضاً تثمين الرأسمال البشري والتراث الإفريقي، من أجل جعل إفريقيا في الواجهة، وبالطبع لم ينجح المغرب في هذه المهمة إلا بمقاومة كل أشكال التقليل من مبادراته والتشويش على خطواته في إفريقيا، سواء من قبل الخصوم، خصوم وحدتنا الترابية، أو أعداء الاستقرار الذين يتبرصون بالمغرب الدوائر ويستغلون كل حدث للإساءة للمغرب، إن المقاومة المغربية اليوم لا تعني مقاومة المحتل، فالاستعمار قد مضى، ولكن المقاومة مستمرة بأشكال أخرى لتحصين الوحدة الترابية للمملكة وصيانة الهوية المغربية والثوابت الوطنية وتعزيز المكتسبات في مجالات التنمية وفي الحضور المغربي في إفريقيا، الشيء الذي يمنح بلدنا فرصاً جديدة للرقي والنمو على الرغم من التحديات العالمية اليوم، بسبب تداعيات جائحة كورونا، والتهديد الإقليمي بالنزاعات المسلحة سواء الجماعات المتطرفة أو الانفصالية أو الحرب الرقمية بنشر الاشاعات والأخبار الزائفة وترويج الأكاذيب ونقل صور وهمية للواقع المغربي، في حين لا يحتاج الواقع إلى أي دليل لإثبات النمو المتصاعد للقوة المغربية سواء في إفريقيا أو العالم، من خلال جهود التنمية والتعاون جنوب جنوب، من خلال تعزيز العلاقات المشتركة في الدول الإفريقية، وأيضاً الشرق أوسطية والخليجية، والتعامل مع الغرب بحكمة وبحياد في النزاعات العالمية، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية، حيث يقف المغرب في موقف الحياد بعيداً عن دعم أي جهة ضد الأخرى، وهذا نوع من المقاومة المتبصّرة، والحكمة المغربية التي أثبتت قدرتها على الخروج من الأزمات العالمية بأقل الخسائر، بفضل المقاومة التي يحظى بها عموم المغاربة، والتي تعني الصبر والثبات والتضامن والتعاون والتضحية، والالتفاف وراء القيادة العليا، حيث صمام الأمان ورمز الوحدة المغربية المتمثلة في المؤسسة الملكية. أخيراً، وترسيخاً لقيمة المقاومة وما تحمله من معاني التضحية العالية، في سياق الاحتفاء باليوم الوطني للمقاومة، نؤكد أهمية هذا الموقف في حماية المكتسبات، وفي دعم القضايا الوطنية، وخاصة مع انفتاح المغرب على إفريقيا، وخوض غمار تحدي التنمية، عبر نموذج تنموي طموح، إذ أصبحت المقاومة المغربية منهجاً في التفكير وأسلوباً في التدبير، خاصة مع تزايد المخاطر والأزمات العالمية، التي يُحوّلها المغرب إلى فرص للنجاح والتميّز، بتشجيع البحث العلمي وابتكار المبادرات والمشاريع الجديدة، والاستفادة القصوى من كل مكونات المغرب أي رأسماله البشري وتراثه الإنساني ونظامه القيمي، بغية خلق مناخ مناسب للعمل والإنتاج وجلب الاستثمار، في عالم متغيّر باستمرار، ولا مكان فيه لغير المقاومين والمقاتلين والمحاربين في سبيل بناء النفوس والأوطان. (*) رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي- مساق