لا شك أن الشعوب تنتصر بتفعيل طاقة العمل والإنتاج، وتنتصر بقوة الإرادة في صناعة النجاحات وتحقيق الانتصارات، وتعتبر معركة الحرية والكرامة من أقوى المعارك التي يخوضها الإنسان منذ أقدم العصور، والمغاربة من أكثر الشعوب ميلاً إلى الحرية؛ إذ تسمية الأمازيغ تعني الأحرار، ولقد حافظ المغاربة على سيادة بلدهم ووحدتهم بفضل الالتحام بين القيادة والشعب، لمواجهة كل اعتداء خارجي يهدد أمن الوطن، وتعدّ ثورة الملك والشعب من الأحداث الوطنية الكبرى التي بصمت تاريخ المغرب الحديث، وكانت لها آثار واضحة في ترسيخ هذا الالتحام بين المؤسسة الملكية وعموم المغاربة، إذ ظلت معاني الثورة تتجدّد في سياقات مغايرة؛ من حديث العرش باسترجاع الملك الشرعي وطرد المحتل الغاشم، إلى ورش التنمية بإطلاق المبادرات الملكية الرامية إلى خلق ثورة حضارية جديدة، تعيد للمغرب والمغاربة أمجاد العزّ وذكريات البطولات المجيدة والفتوحات الكبرى للمغرب في الأندلس وإفريقيا. من أجل تعريف الناشئة والشباب ببعض مفاخر الأمة المغربية، كان الاحتفاء بمناسبات وطنية، نستعيد من خلالها أمجاد الماضي وذكريات الصمود في وجه الأعاصير، وعلى رأسها مواجهة المحتل الغاشم، ومن تلك المناسبات تأتي ثورة الملك والشعب. أُطلِقَت عبارة "الملك والشعب" على حركات المقاومة المغربية، ضد الاستعمار الأجنبي والتي أدّت إلى الاستقلال، وقد اندلعت شرارة هذه الحركات أو الثورات بشكل عفوي بعد إعلان خبر تنحية سلطان المغرب الشرعي الملك المُجاهِد محمد الخامس بن يوسف وتنصيب محمد بن عرفة السلطان المزيف والذي لم يختره المغاربة، ولم يقف الشعب المغربي مستنكراً هذا الإجراء، الذي مسّ رمز السيادة المغربية فقط، وإنما خرج المغاربة للمقاومة في الميدان، فشلّت حركة معظم القطاعات الحيوية بالبلاد، وظهر تمرّد المغاربة الوطنيين على سلطات الاستعمار، الذي اعتقل العديد من المقاومين، وليخمد هذه الثورة، ثورة الشعب، قام بنفي ملك المغرب السلطان المجاهد محمد الخامس وكافة أفراد عائلته إلى خارج الوطن يوم 20 غشت 1953، فكانت ثورة الملك، عندما رفض خيار الاستسلام والرضوخ للاستعمار بالتنازل عن العرش ولو فعل ذلك لما نال المغرب استقلاله بعد أقل من ثلاث سنوات فقط من هذا الحدث، ولكن ثورة الملك زادت الشعب المغربي حماساً وإصراراً على الاستمرار في الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، وتجسيد التلاحم مع الملك، بحمل صوره ونشرها على أوسع نطاق، حتى زعم بعضهم رؤية وجه الملك على القمر في ليلة اكتماله، وهذا منتهى المحبة والإخلاص لملكٍ أحبّ شعبه، فأحبّه شعبه إلى هذه الدرجة التي تذكرنا بقصص العشاق الذين يرون محبوبهم في كل مكان توجّهوا إليه. هكذا، كانت ثورة الشعب بتوسيع المقاومة وتنظيمها بتأسيس جيش التحرير، فلم يكن أمام الاستعمار إلا الرضوخ لإرادة العرش والشعب، وإعادة الملك المجاهد وأسرته الشريفة من المنفى إلى أرض الوطن، في نونبر1955، ثم في أقل من عام كان جلاء الاستعمار، ونيل الاستقلال، لتتوج هذه الفرحة ببناء طريق توحيد المغرب الرابطة بين شمال المغرب ووسطه، شارك فيه آلاف الشباب المغاربة تحت قيادة المغفور له الحسن الثاني وقد كان وليا للعهد آنذاك، حيث استمر الالتحام بين الملك والشعب يدا في يد لبناء مغرب جديد، والانتقال من حديث العرش إلى ورش التنمية بشكل رسمي بعد الاستقلال مباشرة. لقد ظلّت ذكرى ثورة الملك والشعب راسخة في الذاكرة المغربية، نستحضر فيها معاني الوفاء لثوابت الأمة المغربية ومقدساتها، وبذل الدماء والنفوس في سبيل المبدأ، ونصرةً للحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه، وهو البيعة الشرعية التي تربط المغاربة بملكهم، وتربط الملك بهم، فتتحقّق أسمى المعاني الوطنية في هذا الانسجام بين الملك والشعب، ولذلك كانت ثورة فريدة من نوعها، إذ المعروف في تاريخ الثورات أن تكون من جانب واحد، لكنها في النموذج المغربي اتحدت إرادة الشعب مع إرادة الملك، إيماناً بالوطن، وجهاداً في سبيل الله، لإعلاء كلمة الحق، والوفاء لعهد البيعة الشرعية، فكان النصر من الله، واتخذه المغاربة بعد ذلك شعاراً لمملكتهم، (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم (سورة محمد، الآية :7. وظلّت ذكرى ثورة الملك والشعب حدثاً لاسترجاع قيم الالتحام بين الملك والشعب، والحديث عن العرش، باعتباره رمزاً للسيادة المغربية، وأحد تجليات البيعة الشرعية التي تربط السلطان المغربي الأبيّ بشعبه الوفيّ، هذه العلاقة التي لم يفلح الاستعمار في كسرها، ولم تنجح المؤامرات التي دُبّرت بليل من أجل التفريق بين الملك والشعب، هذه العلاقة التي تزداد رسوخاً اليوم مع التحديات الجديدة التي يشهدها العالم، فقد أدرك المغاربة أن سر الاستقرار يكمن في الحفاظ على الالتحام بين الملك والشعب، واستدامة هذا الاستقرار تكمن في أوراش التنمية، ولذلك انتقلت ثورة الملك والشعب من حديث العرش إلى ورش التنمية. وقد تجلت هذه التنمية في مختلف المبادرات الملكية السامية التي أبدعها جلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، منذ اعتلاء عرش أسلافه المنعمين عام 1999، والتي جعلت من ورش التنمية هدفاً استراتيجياً شمل مختلف المجالات، وشكل هندسةً اجتماعيةً تضامنية تتوخى إعطاء الأهمية الكبرى للمواطن المغربي، وجعله في صلب الاهتمام، وأن يستفيد من الثروة، وأن يظهر أثر التنمية في حياته اليومية، ولقد حرص جلالة الملك على تذكير الحكومة بهذا الأمر السامي، في العديد من خطاباته ورسائله، وأشرف جلالته بشكل مباشر على العديد من الأوراش التي أطلقها، وعلى رأسها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و مشاريع محاربة الفقر والهشاشة، وفك العزلة والتهميش والإقصاء الذي تعاني منه بعض المناطق والفئات الاجتماعية، وتحسين الولوج إلى الخدمات، وزرع الثقة في المؤسسات، ودعم الإدماج السوسيو-اقتصادي للشباب والمرأة والعناية بالطفولة والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة وأصحاب الكفاءات، داخل الوطن وغيره، حيث حظي ورش التنمية بنصيب وافر من الاهتمام في التفكير والتدبير والتخطيط والتنفيذ، ليتبلور أخيراً في مشروع تنموي ضخم، أطلق عليه: النموذج التنموي الجديد، والذي جمع ما تفرّق في الأوراش الملكية، وفتح باب الإبداع في التنمية، والاستثمار في الإنسان والقيم والأخلاق، وتحرير الطاقات ومنح الكفاءات فرصة إثبات الذات، من أجل مغرب الغد، الذي يريده الملك والشعب، وهي الثورة الجديدة، التي تجاوزت الحديث عن العرش إلى ورش التنمية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفتوحات السياسية التي حقّقتها الدبلوماسية الملكية في ربوع إفريقيا والعالم، بوصفها ثورة ملكٍ وقائد وزعيم، ندرك يقيناً أن المملكة في أوج ازدهارها، وقد تجاوزت مرحلة التأسيس وتثبيت أركان العرش، إلى مرحلة البناء والنهضة والتشييد، كما يظهر ذلك في جملة من التجليات الكبرى في العمران والإعلام والإدارة والمؤسسات.. وفي مستوى الوعي الوطني الذي أصبح مشرّفاً جداً، فأي حدث يمس صورة المغرب، مهما كان صغيراً ، يهب المغاربة جميعاً للدفاع عن السيادة المغربية، والرّد على الادعاءات المغرضة أو المشوِّشة، لصورة بلد عظيم، يعيش على إيقاع ثورة ملك وشعب، في تلاحم أبدي، ورش تنمية بل ثورةٍ تنموية حقيقية، تقتضي مزيداً من الالتحام بين الملك والشعب. أخيراً وبمناسبة الاحتفاء بثورة الملك والشعب، نستطيع التأكيد أن ورش التنمية اليوم، هو الطفرة الجديدة لهذه الثورة، والتي بدأت ثمارها تلوح في الأفق، وخاصة في عز أزمة جائحة كورونا، ريادة المغرب الجديد كان لها الأثر البعيد في صيانة المغرب وتجنبيه الأسوأ، في الوقت الذي انهارت فيه أنظمة واستسلمت دول للجائحة، بقي المغرب صامداً، بما فتح من أوراش تنموية في قطاعات الصحة والرقميات، وفي مجالات البيوتكنولوجيا، أي التكنولوجيا الحيوية الصناعية، بتصنيع لقاح كورونا، بل ومساعدة كثير من الدول العربية والإفريقية من أجل تجاوز المحنة. إن الانتقال من حديث العرش إلى ورش التنمية، هو صيغة جديدة لثورة الملك والشعب، وهو أفق مغربي يعِدُ بالمزيد من الريادة والتميّز لبلدنا المغرب، في ظل حرص المؤسسة الملكية على تعزيز بناء الهوية المغربية وصيانة مكتسباتها التاريخية، وخاصة عمق الالتحام بين الملك والشّعب.