قبل 6 سنوات أو يزيد كنت كتبت مقالا خبريا بالجريدة التي كنت أعمل بها، تحدثت فيه عن استعداد عدد من الجمعيات النسائية للمطالبة بالمساواة في الإرث بين المرأة والرجل وشن حملة إعلامية وقانونية لأجل تحقيق هذا الهدف. الفترة حينئذ كانت فترة نقاشات ساخنة حول مدونة الأحوال الشخصية، وكانت درجة حرارة الجدل ترتفع مع ظهور تسريبات إعلامية حول تفاصيل الخلافات بين أعضاء اللجنة الملكية التي أنشأت لمدارسة المدونة، والتعديلات المقترحة من طرف الجمعيات النسائية والمدنية والسياسية بمختلف توجهاتها. "" بمجرد نشر الخبر، خصصت زميلة صحافية بإحدى الأسبوعيات المعروفة ملفا حول الموضوع لم تنس فيه توجيه نقد لاذع مستفز لكاتب المقال، معتمدة في ذلك على تصريحات للمدير المسؤول عن الجريدة الذي نفى أن تكون هيأته السياسية تتبنى ما جاء في مقال "الصحافي المبتدئ"، إلى جانب تصريحات رئيسات جمعيات نسائية كلهن نفين أشد النفي أن تكون مذكراتهن الموجهة إلى اللجنة الملكية المكلفة بتعديل بنود المدونة قد تضمنت إشارات من أي نوع لقضية الإرث، وضرورة جعل حظ الأنثى مثل حظ الذكر فيه. كما نفين كذلك أن تكون لديهن نية الخوض في هذا الموضوع أو حتى الاقتراب منه.. أكثر من ذلك، تم توجيه المسألة وكأنها خطة ومؤامرة مرسومة لإظهار الجمعيات النسائية "الحداثية" في موقع المعارضة للدين، وهذا قد يثير المشاكل في وجهها، مؤكدة طبعا أن هذا غير صحيح بالمرة. قرأت الملف جيدا ومازلت أحتفظ بنسخة عنه وتابعت التصريحات، وبدوت غير مصدق لما يحدث.. فأنا سمعت بنفسي حديث بعضهن خلال ندوات حول الموضوع، وكيف كن يعتقدن أشد الاعتقاد أن محاربة كل أشكال التمييز ضد المرأة ومنها الإرث ضرورة، فقط المسألة تحتاج إلى وقت وأجندة.. بينما ترى عناصر من جمعيات نسائية أخرى، وبالضبط من تونس، أن النقاش حول كل المواضيع مطلوب وبسرعة، وقامت إحداهن (من تونس) في ندوة بفندق حسان ذات صباح تتحدث بكل جرأة عن اهمية المطالبة بالمساواة في الإرث، داعية المناضلات النسائيات المغربيات والجزائريات إلى تحدي كل التخوفات وتبني المنهج التونسي في التعامل مع القضايا الدينية التي تثير الجدل. ويشاء العلي القدير أن تمر شهور وسنون، ويبدأ الحديث عن "الإرث"بمقال هنا، وخبر هناك، لتتوج الحملة أو لنقل لتبدأ بإعلان عن التعصيب وضرورة مراجعة تقسيم الإرث وغيره، عكس ما أشارت إليه الزميلة الصحافية في ملفها والسيدات الرئيسات في تصريحاتهن... ولا يهمني كمواطن مغربي بسيط في نهاية المطاف أن تعبر أطراف جمعوية عن مواقفها إزاء قضايا حساسة مرتبطة بالدين والشرع، فلكل الحق في التعبير عن رأيه ما دام سلميا.. لكن ما أتمناه هو أن يأتي اليوم الذي أفهم فيه كباقي المواطنين حقيقة ما تريده الجمعيات النسائية الحداثية..وبكل صراحة ووضوح وشجاعة.. إن الذي تتبع ما جرى بعد إعلان المغرب قبوله رفع التحفظات عن الاتفاقية الدولية لمناهضة التمييز ضد المرأة سيتأكد من أن الغموض مسألة متعمدة... ولا واحدة من الجمعيات النسائية اللواتي اتصلت بهن القناة الأولى والثانية وغيرهما من الجرائد الوطنية كانت صريحة حول مواقفها مما تعنيه "اتفاقية التمييز ضد المرأة".. وللإنصاف فقط قرأت تصريح السيدة خديجة رياضي رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان على صفحات الجريدة الأولى بتاريخ 12/12/2008 تؤكد فيه أنه بعد موافقة المغرب على رفع التحفظات صار لازما "على الدولة ملاءمة القوانين التي تنظم هذا المجال بمنع زواج الفتيات القاصرات، ومراجعة النيابة الشرعية على الأبناء، والسماح للمرأة المسلمة بالزواج من غير المسلم، والمساواة بين الجنسين في الإرث"... وإذا كانت قضية الغموض متعمدة، والبعد عن الوضوح هو الأصل، فإن تساؤلا من نوع آخر يفرض نفسه.. يرتبط بحقيقة مشاكل المرأة المغربية، وحقيقة عمل عدد من الجمعيات النسائية المغربية... وقد سنحت لي هذا الصيف فرصة زيارة بعض القرى المغربية النائية، أين تتحمل المرأة بصبر وجلد تكاليف الحياة ولا أحد يلتفت إلى مآسيها.. أمية وفقر وجهل وغياب تطبيب، وحكى لي أحد أعيان قبيلة بنواحي مدينة تازة أن عددا من النساء كن على وشك الولادة توفين وهن في الطريق إلى أقرب مصحة بتازة نفسها.. السيدات يعشن في الجبال وأغلبهن يلدن داخل المنازل في ظروف صعبة جدا، وصواحب الولادات العسيرة ينتظرن الموت... كذلك قبالة البرلمان عشرات الخريجات الجامعيات يعانين من هراوات رجال الأمن كما يشاهد الجميع يوميا.. وكذلك اعترفت لي سيدة منهن لديها طفلان أنها تعيش ظروف جد صعبة، فتضطر للمشاركة في المسيرات الاحتجاجية تاركة طفليها مع أمها أو مع الجيران، كما أنها وزميلاتها يعانين إلى جانب الضرب من التحرشات اللفظية لبعض رجال الأمن.. إلى جانب كل ذلك، هناك نساء دخلن السجون وبعضهن تعرضن للاغتصاب مثلما حصل مع السيدة هناء التسولي بمدينة فاس، وأخريات تم التعتيم على قضاياهن من مثل رقية أبو عالي.. أين الجمعيات النسائية من هذه المشاكل وغيرها.. مشاكل حقيقة واقعة تعاني منها المرأة الأم والأخت والزوجة والبنت... ويبدو طبيعيا أن يشك المرء في كل ما يجري ويتساءل حول ما إذا كان الأمر مقصود فعلا، وهناك "مشاكل معينة" تلتزم جمعيات نسائية بالحديث عنها، ضاربة عرض الحائط بالمشاكل الحقيقة للمرأة المغربية.. وهنا لا أخفي رغبتي في أن أسمع رأي المغربيات، على الأقل اللواتي سيقرأن هذا المقال... إن ما لا تعرفه كثيرات من المشتغلات في الحقل النسائي، أن الأسرة تشبه إلى حد كبير الجين البشري ADN، حيث إن محاولة تخريبه والتعديل فيه بما يضره ولو بنية حسنة يوشك أن يشوه جمالية الحياة البشرية كما هي ويقضي عليها. ولعل في التقرير الأخير لوزارة العدل وحديثه عن نسب الطلاق المهولة (حوالي 40 ألف حالة طلاق عام 2007)، وانخفاض نسبة الزواج، خير منذر محذر.. فلا أحد يرفض التجديد والاجتهاد، لكن ضمن إطاره المعروف وضوابطه العلمية الواضحة.. تنويه : أشكر كل الزملاء والزميلات الذين راسلوني على بريدي الإلكتروني، وأشكر بشكل خاص كلا من هدى/ الرباط، ومحمد/ فاس، وابراهيم من آكادير على رسائلهم الرقيقة، وأعدهم بالعودة إلى كواليس حرب 48 التي أضاعت فلسطين وأدخلت الدول العربية حتى الآن في دوامة مفتوحة، خلال مقالات مقبلة. [email protected] * صحافي بشبكة إسلام أونلاين.نت * صحافي بشبكة إسلام أونلاين.نت