هذا ليس غليونا في لوحة الرسام البلجيكي روني ماغريت. وقد يظهر لكم أنه كذلك. لكن ليس هو. لأن الذي رسمه أراده شيئا آخر. أراده صورة لغليون. بينما ليس هو. تماما كما هو الحال في هذا النصب الفني الذي تم إنجازه بالمهدية. قرب مدينة القنيطرة. فهذا الذي ترونه في هذا النصب ليس سمكة حنكليس. تملوا فيه جيدا. تملوا في السمكتين. ولاشك أنهما شيء آخر. فماذا يكون يا ترى. وربما عارض صاحب هذا النصب لوحة ماغريت الشهيرة. مستعملا الإيحاء. وموظفا رمزية الغليون في الثقافة الغربية. لذلك. وعندما تركز على السمكتين. فإنهما يبدوان لك غليونين. يبحثان عن من يشعلهما. غليونين في ورطة. غليونين خارج الماء. غليونين يبحثان عن مبسم. وعن رضاب. وعن من يدخنهما. وعن من يطفئهما. بينما لا أحد يعرف بالضبط ماذا كان يدور في رأس المبدع الذي صنعهما. وماذا كان يقصد. وهل هما فعلا سمكتا حنكليس. وهل أفعى البحر. وهل غليونان. حيث النصب هنا مفتوح على كل التأويلات. وكل متلق سيرى فيهما ما يرغب في رؤيته. لكن ألا يبدو هذا النصب ردا على لوحة "أصل العالم" الشهيرة. أليس عملا فنيا يكذب لوحة غوستاف كوربي. أليس مواجهة للمركزية الغربية. ثم أليس أصل العالم عند غوستاف كوربي مستلق. وأليس أصل العالم في المهدية واقفا بالمقابل. وفي بحث عن الحقيقة. الحقيقة باعتبارها هي الأخرى متعددة. ولا واحدة. أليس نصب المهدية هو إعادة اعتبار للحنكليس. الواحد. ولقصة الخلق. بينما لدينا هنا حنكليسان. متطلعان إلى لوحة أصل العالم. مشرئبان. كأن الفنان هنا يرفض وجود حنكليس واحد. كأنه مانوي. كأنه يعود إلى الأساطير القديمة. حيث لم يكن هناك حنكليس واحد. بل اثنان. وثلاثة. وعشرات الحنكليسات. ومهما حولنا أن نغض الطرف عن لوحة أصل العالم لغوستاف كوربي. إلا أنها حاضرة بقوة في نصب السمكتين. وتشعر بأنهما يبحثان عنها. وتشعر أن كل حنكليس يريد أن يصل إليها قبل الآخر. كي يثبت أن الأصل ليس واحدا. وإنما متعدد. كأن هناك منافسة على أصل العالم. ومن يتملكه. ومن يسيطر عليه. ومن يرويه. ومن يصنع تاريخه. وكأنما يرد صاحب نصب الحنكليسين على كوربي قائلا: لا أصل دون مشاركة. لا أصل دون سالب وموجب. لا أصل دون آدم وحواء. ولا أصل دون يين ويانغ. ولا برد. دون حر. ولا ليل. دون نهار. ولا غرب. دون شرق. وهكذا... أي لا أصل للعالم دون حنكليس. ومن هنا قوة نصب المهدية. وقد جاء ليحطم كل اليقينييات الفكرية والفنية. وقد جاء ليعيد الاعتبار للحنكليس. متوفقا على لوحة غوستاف كوربي. بواقعيتها الفجة. كأنها فوتوغرافيا. كأنها ليست عملا فنيا. جاء ليلجها. وليخلق العالم من جديد. بتنوعه. وبأصله المتعدد. وبغياب الأصل. لأن الأصل هو ميتافزيقا عند فنان المهدية المجهول. بينما منذ أمس والجمهور يسأل ما هذا. وهل حنكليس. وهل ليس. وهل هو. وهل بعينه. وهل الأقرع. لا. لا. هذا ليس حنكليسا. ويكفي أن تتملوا فيه. وأن تنظروا إليه جيدا. ومن أراده حنكليسا فليعتبره كذلك. ومن رآه سمكا فليقله في الزيت. والحال أنه يتملص ولا يمكن أبدا القبض عليه. كحال كل عمل إبداعي عظيم. إلا أن أعداء الفن سوف يزعجهم هذا النصب وسيصرخون هذا حنكليس هذا كافر. هذا عدو الله. وسيحرضون عليه وسيأتون بالفؤوس والمعاول. وسيحطموه. في محاولة منهم لإخفاء معالمه. وللقضاء عليه وسوف تدمع عينه. وسوف يبكي. وسوف يريق. وسوف يشهق. وسوف ينكمش. لكن الحنكليس أبدا لا يموت. وما دامت الحياة مستمرة فإنه سيظل حيا. وإن حطموا حنكليسا. أو حنكليسين فمن مائهما سوف تنبت حنكليسات في كل مكان. ومن مائها سوف تعود الحياة إلى سابق عهدها ويعود الحب ويعود الحنكليس إلى لوحة أصل العالم ويدخل فيها وتدخل فيه كأنهما لوحة واحدة.