«أضع جسدي والفرشاة في البرزخ: هذه النقطة الكامنة الكائنة في مكان ما بين السماء والأرض. القماشة تغطي مساحة فناء المحترف. الجسد ينتصب حينا وينحني أحيانا أخرى في كل الجهات. الحركات تتدفق هادئة صاخبة مالئة بياض القماشة. اللطخات اللونية تتمفصل في ما بينها بفعل الفراغات التي يتركها نتقل الجسد في الفناء. تظهر أشكال، تأخذ شكل هيآت آدمية سرعان ما تختفي. ملامح وجوه يصعب التعرف عليها... الفراغ، ويسقط الجسد في الهوة التي انسدل عليها حجاب اللون». في البدء كانت المسافة ليست هناك مسافة بين الفن والمتخيل.. بل إن كل مسافة تحاول أن تنتصب بينهما يكون مصيرها الزوال.. الفن هو الوجه الآخر للمتخيل، والمتخيل هو الكتلة السحرية الكامنة في الفن.. عندما يقترب الفنان من إنهاء عمله الفني ينتابه شعور بالقلق يكون مصدره العلاقة التي نسجها بينه وبين عمله الفني الذي يكاد بالكاد يأخذ شكله النهائي. الشعور بالقلق ينتاب الفنان لأنه يخاف أن يكتمل عمله. العمل الفني المكتمل إما أنه يكون فاشلا، وإما أنه يؤدي بصاحبه إلى السقوط في التكرار أو السقوط في محاكاة الواقع المادي أو الذهني، موضوع عمله. إنه الإحساس بالفراغ، تماما كذاك الفراغ الذي تحس به المرأة عندما يخرج الجنين من رحمها، أو ذاك الفراغ الذي يخرج ويدخل فيه ومنه الضوء... الصورة قناع كنت في كثير من الأحيان، وأنا أتأمل بعض أعمال الفنانين، أتساءل: ترى أين تكمن تلك الكتلة السحرية، التي نسميها المتخيل: في العمل الفني؟ في منطقة الظل؟ في تلك البقعة اللونية التي نسميها الضوء؟ في الحد الذي يفصل ويصل بينهما؟ في العلاقة القائمة بين الفنان وعمله؟ في هشاشة الدماغ؟ ولكن ماذا نقصد بالمتخيل هنا؟ سبق أن قلت إنه كتلة سحرية كامنة في الفن. بالطبع إنه كذلك. فالمتخيل في الفن هو تلك السيرورة والصيرورة غير الممكن القبض عليهما في حياة الإنسان وفي الأعمال الفنية اللامكتملة واللامنتهية. كثيرا ما كانت تراود بعض الفنانين فكرة أن أعمالهم الفنية ناقصة، وكانوا يحاولون في أعمالهم اللاحقة سد هذا الفراغ الذي يشعرهم بالنقصان، لكن الفشل كان يقف أمامهم كالقدر المحتوم. أذكر هنا ذاك الفنان الذي كان يستيقظ من نومه في هزيع الليل (أعتقد أنه الفنان الفرنسي بيير بونار)، ليهب مسرعا إلى محترفه متأملا لوحته التي اعتقد أنه أنهاها، باحثا عن المكان الفارغ فيها ليسده. كان هذا الإحساس يأتيه من القلق والاكتئاب اللذين لازماه طيلة مسيرته الفنية، رغم أن هذه الحال لم تكن معروفة عنه. تصرف هذا الفنان بهذا الشكل يشير إلى شيء ما، دفين في مكان ما، يصعب البحث عنه خارج أعماله الفنية. فعندما نتأمل معظم أعماله، خاصة الأعمال المدرجة في خانة «المستحمات»، نجد أنه كان يمسح ملامح «مستحماته» بحيث لا يمكن التعرف من خلالها على ملامح موديلاته. فهل هذا هو الفراغ الذي كان يؤرق بونار ويجعله قلقا للحد الذي يبقى فيه مستيقظا حتى أولى ساعات الصباح؟ الوجه هو النافذة التي يمكن أن نطل منها على الروح.. والروح لا يمكنها أن تتجلى إلا من وراء حجاب.. والحجاب هو إسدال اللون على الوجه.. إنه قناع.. الوجه في نهاية المطاف قناع.. والقناع يحيل على الموت.. والموت حاضر في أعمال هذا الفنان.. فأحواض «مستحماته» تشبه القبور.. والقبر هو أول صورة تم إنتاجها في تاريخ البشرية. متحف المتخيل ألا يمكن، هنا، أن نعتبر اللاشعور متحف المتخيل؟ التحليل النفسي يشير إلى أن اللاشعور ما هو إلا تجميع لصور التقطتها العين (عين الجسد وعين الفكر): صور ماضية وصور حاضرة وصور مرتقبة. صور لم تعد تحيل على أي شيء في الواقع المرئي.. صور شظايا لا يمكن العثور على مفاصلها ولا على ما يربط بعضها ببعض، ذلك لأنها كانت في الأصل غير مكتملة. المكتمل غير قابل للتحقيق، إنه مفتوح دائما على العدم. فالفنان على طول مسيرته الفنية يطلب دائما معانقة العدم، وطلبه الملح هذا هو ما يجعله في كل مرة يسقط رهينة الفشل، ومن ثمة يكون عمله الفني المنجز ناقصا، يتضمن ثغرة ما في مكان ما. في الفن تنتصب الفخاخ أمام كل وافد إليه. والفنانون يعرفون هذا، سواء وعوا ذلك أم لم يعوه. فهو، أي الفن، لا يصدر من مقام الحقيقة، بل يصدر من مقام الوهم. هذا هو مصدره منذ قديم الزمان... منذ الخروج الأول من الكهف (كهف أفلاطون) بحثا عن الضوء، إلى الدخول الأول إلى «صيدلية أفلاطون» بحثا عن «الفارماكون» (السم والدواء) لدسه في زوايا وبين ثنايا الفلسفة التي تلهج بالحقيقة (نيتشه هو من قام بهذا الفعل). الحد يخلخل الحقيقة ليس الخروج من الظل إلى الضوء هو الذي يمنحنا حقيقة الفن.. وليس الانكماش بعيدا عن الضوء في اتجاه الظل هو الذي يقربنا من حقيقة الفن.. بل إنه الوقوف في الحد بين الضوء والظل، بين الامتلاء والفراغ، بين الخط واللون، بين القذف ومكان الاستقبال، بين الانفعال ومحل الانفعال، بين التكرار والاختلاف، بين الصلابة والهشاشة، بين الكثافة والسيولة... الوقوف في الحد، وفي المابين، يخلخل الحقيقة التي ترسبت في التاريخ (تاريخ الفن) منذ خروج الصورة من طبيعتها الأولى (القناع) إلى عودتها إلى أقنعة الوسائط والميديولوجيا المعاصرة. الحد هو المسافة القائمة بين ما نعتقده متناقضات. الحد جسر يربط بين الأضداد، ويجعلها لا تختلف عن بعضها البعض من حيث القيمة. في الحد يصبح العمل فارغا من المعنى، ذلك لأن المعنى قيد يحد من انتشار الغواية: الانفعال الأول بين الجسد والروح. متخيل ماغريت على ماذا يحيل العمل الفني؟ على ما يشبه الشكل الذي يأخذه الموضوع المصور؟ على ما يتم تمثله بآلة الفكر؟ على ما نحس به ونبتكر له شكلا؟ بمعنى آخر، هل يحيل على الخارج أم على الداخل؟ هذا السؤال هو أحد المنافذ التي من خلالها يمكننا أن ننفتح على العلاقة القائمة بين الفن والمتخيل. لنتأمل أعمال الفنان البلجيكي رونيه ماغريت: «خيانة الصور» (يمثل غليونا كتب تحته هذا ليس غليونا)، «القمر»، «السينما الزرقاء»، «الشجرة العالمة»، «اللذة أو الفتاة آكلة العصفور»، «الاستنساخ المحظور»، «الواضح الجلي»... فهذا الفنان، الذي يدرج ضمن أهم الفنانين السورياليين، ظل طيلة مسيرته الفنية يسبر أغوار البديهيات الماثلة للعيان.. الغامض في الواقع يصبح واضحا وجليا في العمل الفني.. والواضح الجلي في الواقع يصير غامضا في العمل الفني.. يد الفنان تحول الواقع المادي إلى صورة مائعة لا تستقر للعين بسهولة، ولا تمنح نفسها دون أن تأخذ شكلا آخر غير ذاك الذي كانت عليه. لم يكن التصوير الصباغي، بالنسبة لرونيه ماغريت، تمثلا لشيء واقعي، بل إنه فعل فكر الفنان تجاه هذا الشيء. إعادة الارتباط بين الأرض والسماء، بين الخير والشر، بين الجمال والقبح. إعادة النظر في الفكرة القائلة بأن الثنائيات متنافرة لا يمكن الجمع بينها. هذا هو ما يجعل المتخيل ينتعش بدون كوابح وبدون قيود في الممارسة الفنية. هل الفراغ هو المتخيل؟ إذا كان الفنان بونار يستيقظ في أنصاف الليالي ليملأ الفراغات الكامنة في أعماله الفنية، فإن الفنان رونيه ماغريت كان في جل أعماله الفنية يضع نفسه ويضعنا معه أمام الفراغ (فراغ المعنى الذي تحبل به جل أعماله الفنية). التصوير الصباغي عند رونيه ماغريت يسائل طبيعته الشخصية، بالقدر الذي يسائل الحركة التي يمارسها الفنان على الصورة. أليس هو القائل: «أسهر، إلى أقصى حد ممكن، على ألا أنجز إلا أعمالا تثير الغامض المنجز بالدقة والفتنة الضروريتين لحياة الأفكار». لقد كان ماغريت يتفوق دائما في تمثل الصور الذهنية. ففي عمله «الاستنساخ المحظور» (1937) يلخص رونيه ماغريت نظرته للتصوير الصباغي: نرى شخصا واقفا ينظر إلى مرآة، لكن المرآة لا تعكس وجهه، بل تعكس ظهره الذي يشاهده الواقف الداخلي في العمل الفني والواقف الخارجي الذي يشاهد العمل. يريد ماغريت من خلال هذا التمثل المعكوس أن يقول لنا: إن التصوير الصباغي ليس مرآة تعكس الواقع المرئي. وبهذا فهو يقوض البديهيات التي ترسخت وما زالت تترسخ في أذهان الكثير من الفنانين والمهتمين بالفن. باريس: 18 نونبر 2010