الله يسمح لي. أحسّ بذنب شديد. كم من "كوفيد" دمّرتُ خلال فترة الحجر الصحي ! أغسل يدي في كلّ دقيقة، تقريبا، إذا لمستُ أي شيء، وأسحبُ "الكوفيدات" إلى حوض الماء فتذهب وقد تشقّقت خلاياها وذابت مع البقايا. أليست "الكوفيدات" مخلوقات الله؟ ألن يكون لوجودها مغزى في حياة الأرض والسماوات والطبيعة والبشر؟ ألن يدخل التخلص منها في باب: من قتل نفسا؟ لكنني أقتل الأنفُسَ الكوفيدية حين أغمرها بالجافيل والصابون. أترصّد "الكوفيد" العنيد الشديد في كلّ مكان: على المقابض والأبواب وطاولة المطبخ وأمسحه وأرمي به في كيس القمامة ثم أحكم الإغلاق كي يموت مختنقا بشرّ أفعاله. أتتبع التفاصيل اليومية وأدقّق في الخطوات والمسار مثل محقّق يُعيد بناء وقائع الجريمة من جديد: هنا وضعتُ يدي، لمستُ هذا الإناء، وضعتُ حذاء الخروج على هذه المساحة ولم أسكب مادة الكلور، وهنا، على هذا السطح "كوفيد" مُحتمل قد يسير أو يطير أو يلتصق بأي شيء الخ الخ. كلّما لمستُ شيئا مسحتُه في المطبخ أو الحمام أو الصالة. أما غرفة النوم فهي معقّمة بالكامل ولا حقّ لي في ولوجها إلا بعد التنظيف وتغيير الملابس كما يحصل في غرف الجراحة المُحاطة بالعناية والاهتمام. هي غرفة العمليات الكبرى على كل حال؛ أدخل إليها بلباس خاص كي أحصر كل الاحتمالات وأبقى في شرنقة النقاء التي تتطلّبها الحالة. وعندما أدخل الغرفة المعقمة بالكامل لا ألمس وجهي، زيادة في الحرص، فهذا أمر ممنوع تماما. منذ أسبوعين، بدأتْ عطلة مُتفَق عليها بين يدي ووجهي. سوف نرتاح قليلا من تلك العلاقة التي تُربِّت فيها اليد على ثنايا الوجه وتلامسه أو تهرشه أو تداعبه. ومع مرور الأيام اشتقتُ إلى وجهي. إلى ذكريات اليد معه، وإلى الملامسات العفوية التي تنبع فجأة من طول تفكير أو سهو. تفكّر اليد المحرومة من الوجه، في فترة الحجر الصحي، فتقول لنفسها: أشتاق الملامسات المفاجئة، حكّ أرنبة الأنف مثل جرو صغير، والعينيين. كم هو جميل أن ترتسم الدوائر الحمراء أمام العينين المغمضتين حين تأخذهما السبابتان المعقوفتان بالحكّ الدائري مثل طفل الرسوم حين يبكي. كلما داهمهما تعب الكمبيوتر أحكهما على عجل فأحس الحريق اللذيذ. ثم الوجه بأكمله أحيطه برعاية المسح واللمس بباطن الكفين مثل أم تتفقد ملامح الولد. لكنها عطلة الوجه أيضا لتعزيز الحماية ودحر الاحتمالات. أقضي يومي مع المسلسلات والأفلام ومواقع النت. أقلّب الكتب بملل. حتى مع الحزم المعتاد مع الذات لكي أقرأ بانتظام لا أجد شيئا مثيرا لأقرأه. جثث كثيرة في بيتي بلا فائدة؛ كتب كثيرة اشتريتها ولم أستطع إكمالها لأنها لا تستحق. يكتبون بغزارة لا تليق. أُعدّ الدروس بلا شهية وأقلّب المراجع والمصادر ثم أتركها لأعود إليها بين مسلسل وآخر. أتفرج على آخر الأخبار وعدد ضحايا الفيروس وأتابع المقاطع الساخرة التي تنتشر في كل المواقع كي أخفّف من ضغط "الكوفيد". "كوفيد" كلمة أكثر شعرية من عبارة "كورونا". تصلح قافية لقصيدة طويلة ترثي حال الأرض في هذه الظروف. اللحظة الوحيدة التي أجدها مثيرة، في يومي، هي ساعة الرياضة. أفرش زربية خفيفة، وأحرص على أن يكون الجزء الملامس للأرض هو الجزء الذي يلامسها عادة كي لا أقلبها فأضع جسدي في مهبّ "الكورونا" الأرضية. أكاد أتخيل الأرضية مبقّعة بالفيروس الذي يختفي، بمكر، في مربّعات الزليج . أنتهي من ساعة الرياضة وأجمع الزربية من جديد لأضعها في مكان بعيد. أغتسل. أرتخي. أسمع الموسيقى وأفكر في الذين يعيشون في الخارج ويلامسون العدو وليس لهم من حلّ سوى الاحتكاك به لظروف العمل. أفكّر في الممرضات الجميلات الأنيقات اللطيفات اللواتي يضعن جانبا، في هذه اللحظة، كل رغبة في التعطّر والتزيّن والاستعداد لسهرة نهاية الأسبوع. تبدو لهن كلّ أسباب الحياة ثانوية أمام همّ حماية الأطفال والعجائز والمصابين. الآن سيتجاهلن "الصاك" الذي يحوي أشياءهن البسيطة وسيفضلن الابرة والقطن ويتجاهلن الأحبّة للاحتكاك بالمرضى. ثم ماذا يفعل المتسولون الذين أُغلقت أبواب المساجد أمامهم؟ والواقفون في المحطات لاستجداء العطف؟ ماذا يفعل المؤمن المواظب على صلاة الفجر، بها يرتّب يومه ويمنح روحه طاقة الأمان؟ ماذا يفعل حراس السيارات حين تتوقف السيارات عن الحركة؟ أين سيذهب اللصوص؟ والنمّامون الذين يراقبون كلّ شاذة وفادة؟ ماذا تفعل بائعات الهواء؟ أقصد اللواتي يعبّئن الهواء في قنّينات الانتظار على الطوار المقابل مجتهدات بالعطور الرخيصة والمكياج العنيف في انتظار الزبون القادم ؟ ماذا سيأكلن في أيام الله السوداء ومن سيدفع عنهن أجرة البيت؟ من يستطيع ملامسة جسد متكور على نفسه ويضجّ باحتمالات "الكوفيد"؟ ومحلات الشيشة من يفتحها؟ والبارات؟ والكباريهات؟ ماذا يفعل المدمنون ومرضى الفشل الكلوي؟ وضحايا حوادث السير؟ أي قسم إنعاش سيقبلهم؟ سيكون من الترف أن تذهب إلى طبيب الأسنان أو لتقيس الضغط . أقرأ، أكتب، أنام، أستيقظ، ثم أتّصلُ بشاعر صديق. يبدأ كعادته في الضحك، من الواضح أنه يكتب شيئا جديدا. بلا مقدمات يسألني: -ماذا يقول كوفيد لكوفيدة؟ – ومن هي الكوفيدة؟ – أنثى الكوفيد؟ -ماذا يقول لها؟ -يقول كوفيد لكوفيدة/ أجي حْدايا يا لكبيدة ! -هذه قصيدتك؟ -نعم. آخر ما كتبت. هل أكمل لك القصيدة؟ -لا، سأخرج للتسوق. بيتي فارغ من المؤونة وقصيدتك خَارْية. أخرج من البيت لأتقَضّى. أقدّم الخطوات باقتصاد ورهبة. أترك الموسيقى تملأ المكان. ماجدة الرومي تغني "كلمات". أردّد معها قبل الخروج: "وبأني كنز وبأنيييي أجمل ما شاهد من كوروونات. كوروناااات كورونااات كورناات...." من حسنات "اليوتوب" أنه رفيق مخلص. يعرف ذوقي الكلاسيكي جدا. لا أبذل مجهودا كبيرا في الاختيار، يقترح أغاني كلثوم وألحان السنباطي وعمر خيرت والموشحات الأندلسية بسهولة شديدة وبلا تمنع. أبدأ في الانصات إلى واحدة ويستمر في تدوير الكلاسيك العجيب داخل بيتي بلا توقف، من ديسك لديسك ومن فيديو لفيديو. أحيانا أفاجئه بتغيير الاختيار فأحسّ بأنه يتفاجأ لهذا الانقلاب غير المتوقع ثم يعود إلى البداية كأنه يقول" لحظة انقلاب وتمر". رفيق مُنصت خدوم طوال النهار وفي أوقات الكتابة حيث أنشغل بالحاسوب وأترك له حُسن الاختيار. لكنني عند الليل، أفكّر بأن "اليوتوب" يمتلك حاسة زائدة تجعلني أشعر بعدم الاطمئنان؛ فبمجرد نطق عنوان أغنية، أو الدندنة بها، أو حتى التفكير فيها، يضعها على لائحتي لأسمعها. إنه لا يكتفي بالإنصات إلى كلماتي بل يتجسس على أفكاري ومشاعري. أنزل الدرج مبتعدا عن شرنقة الموسيقى والحجر الصحي. البقاء في المنزل لوقت طويل عادة محبّبة لدي، لكنها عادة اختيارية في الأيام العادية، محبّبة لأنها تعني الصمت والهدوء والكتابة والموسيقى الخفيفة. هي الحالة النموذجية لكاتب. الآن أصبحت إجبارية. الشارع خال تقريبا. أفراد قليلون يسيرون على عجل، أسمع عطسة بعيدة فأتأهب. أبتعد عن مصدرها عشرة أمتار. لكن ألا يطير "الكوفيد"؟ ألن يلحق بي ويقول: زبون جديد؟ ألن يبقى كما قال بعضهم ثلاث ساعات في الجو؟ أقف عند باب محل الخضر، على مسافة كافية. الخضّار يضحك مع الزبون الداخل إلى المحل فيتطاير لعابهما. ينتبه لقدومي فيطلب مني الدخول. لا أدخل. أقرأ عليه من الورقة وأطلب منه إحضار السلعة. يطلب مني أن أتخيّر الخضر بنفسي. أتعلل بالحرارة والمرض كي لا يفرض علي الدخول. لن أدخل كي لا تتضرّر. الخضر في متناول الناس يقلّبونها كما يشاؤون ويختارون منها. الخَضّار يقلّب بدوره الجزر والبطاطا والطماطم والخسّ ليَزِنَ ما أحتاجه. يُمسك النقود بيديه ويحرّك الخضر ثم يعطس ممسكا وجهه براحتيه. "أنت غمامة على شمسك". أقول للخضّار فجأة. كيف؟ غمامة؟ نعم. شُوفْ، هناك متصوّف قديم اسمه البسطامي يقول هذا الكلام. وماذا يقصد ؟ يسألني. المعاني كثيرة وممتدة، أُجيبه، لكن في حالتنا هذه أنت لا ترى نعمة الصحة، هناك غشاوة على عينيك مثل الغمام، لأنك لن ترى قيمة الصحة إلا عندما تمرض وتختنق فتذهب إلى المستشفى ويحبسونك وقد تموت. أنت تغامر. يدخل إلى محلّك خلق كثير. تخيّل لو أن أحدهم نقل لك العدوى. ستطير غمامة الصحة التي تغطّي عينيك ويصبح بصرك حديدا ترى به حقيقة ضعفك. يصمت قليلا، ثم يقول : "يا لطيف. فال الله ولا فالك. الحافظ الله. قل لن يصيبنا". أخفّف الأمور: أنا أتمنى لك الصحة. فقط أنت تغامر. تخالط الناس بلا قياس. يسمع مني. يتقبل الفكرة، نسبيا، ثم يقول لي : شكون هاد البزطامي؟ -اسمه البسطامي. -بحال بحال. آه، ياك البزطامي؟ هل يصنع البْزاطم؟ تنفلت الضحكة فجأة منه. قل لي، قل لي بالله عليك (يكاد يمسك ثيابي وقد استمرأ اللعبة) هل يصنع البزاطم؟ هل يملأ البزطامي دْيالَكْ بزطامي بالمال إذا أصبح خاويا؟ بالله عليك يا أستاذ. عرّفني على البزطامي نَقْسَمْ معك الفلوس. يضحك بهستيرية ويجاريه زبون توقّف للتو. يضحك الزبون دون أن يعرف السبب. لا يسأل بل يضحك فقط. يختار من الخضر أجود "الكورونات" ويضحك. أفكّر في ماجدة الرومي. يتحادثان ويتقاربان ويتلامسان. يزنُ ما يشاء ثم يغادر وهو يضحك وقد انقشعت الغمة فجأة وغاب الوجه المتجهم. لقد تحرّكت مياه الروتين الراكدة عندهما. اكتشَفَ الخضّار فجأة نقطة ينطلق منها ليغيّر روتينه اليومي. أنتظِرُ صامتا بصبر. لا أجاريهما في الضحك. يبدأ في اختيار الخضر لأجلي، من جديد، ثم يتوقف ليحادث زبونا أو يزِن لزبون متعجل ويحتفظ بي ليُطيل النشوة. لقد اكتشفني. أنا مادة نادرة وقليلة الوجود. كل الزبائن متعجلون. لا ينظرون إلى جهتي ولا يحترمون المسافة. يتقضّونَ ويذهبون على عجل وأنا واقف خارج المحل. يأتي إلى ذهني عنوان كتاب لخوليو كورثتار تركتُه على الطاولة: (كل النيران نار). أقول لنفسي: كل الزبائن متعجّلون. يُنهي الخضار اختيار السلعة. يمدّ لي الكيس وما تبقى من النقود. أضع النقود بعناية في الجيب الصغير وأمضي إلى الدار تتبعني ضحكاته وكلماتك "البرزطامية". مفتاح الشقة في جيبي مع النقود. لا مشكلة، سوف أغسل المفتاح عندما أدخل، والنقود سأتركها مع ثياب الخروج في مكان بعيد. سوف تختفي "الكورونات" بعد ساعة لأنها لن تجد جسدا تعيش بداخله. لماذا تعيش "الكورونا" على الورق المقوى أطول مدة؟ تحب المال أيضا؟ تحبّ الأمان المقوّى؟ تركتُ باب العمارة مفتوحا قبل الخروج. أدفعه فلا يُفتح. يبدو أن جارا قد أغلقه. لم أحمل معي مفتاح الباب الكبير. ماذا أفعل والأكياس في يدي. يُطلّ الحارس ويفتح الباب ثم يختفي هاربا وقد وضع يده على أنفه. اليد التي فتح بها الباب يضعها على أنفه ويهرب. يسلّم بالإشارة و"الكوفيد" في يده. أصعد الدرج وأضع الأكياس أمام باب شقتي. أبحث بحرص على مفتاح الشقة وأحرص ألا ألمس الباب. أضع حذاء الخروج على ممسحة الأرجل الصغيرة المعقّمة بالكلور. أدخل المطبخ مباشرة بالأكياس. تقوم خطّة الحماية على وضع كل الخضر والفواكه في حوض الغسيل والإجهاز على "الكورونا" بالماء والجافيل. سوف أنقع دين أمه في الجافيل حتى يصبح رطبا ومفككا وميّتا بالتمام والكمال. الأكياس الخاوية سأجمعها وأضعها في كيس القمامة وبعد الانتهاء من تنظيف المطبخ وتعقيم الأسطح والأبواب والنوافذ سأطلق مادة معقمة في الهواء ثم أضع ملابس الخروج في مكان بعيد وأدخل لأغتسل كما لو أني أمسح تاريخ رحلة الخروج وأعود إلى نقطة الصفر. أسكب الخضر في الحوض فتقفز إلى ذهني فجأة تلك المقولة" أنت غمامة على شمسك". أتذكّر أن صاحب المقولة هو محي الدين ابن عربي وليس البسطامي. لكن لماذا قلت للخضّار البسطامي؟ لماذا اختلط ابن عربي في ذهني بالبسطامي؟ لأنني أحبّ البسطامي؟ لأن اسمه يتضمن البسط؟ أفتح الأكياس الباقية وأُفرغ الفواكه في الحوض. أرمي بالأكياس وسط سلة النفايات، أفتح الصنبور، وأنا أردّد المقولة في ذهني، فينكسر، فجأة، بين يدي. يندفع الماء بقوة غير معتادة، تبتلّ الخضر والفواكه والمشتريات بأكملها ويغمر وجهي وأنفي وعيني الماء المختلط بالفيروس.