ماذا أصاب جمانة في تلك الليلة التي ما أن تتذكرها حتى تشرف على الانهيار ، لكنها تتماسك وتزحف ببطء مثل ضفدع عجوز نحو زوجها لتهمس أمامه بصوت خافت أنها ندمت و حزنت و بكت ، وهي الآن تعتذر له كما تفعل دائما و تدعو الله أن يمنحه كيسا آخر يضعه في مقام مليونير.غير أن النوني تقلص ، و تضاءل، و تداعت أطرافه فلم يعد يرى أو يسمع شيئا. صار مثل صنم نحيف بارد لا يتحرك. تتأسى و تقول له إنه حقا كان على صواب حينما أخبرها أن أمورا كهذه لا يفهمها المرء إلا إذا كان في مقام مليونير. لم يخطئ، و تألمت، فالنهر يتدفق ماؤه كل يوم، لكنه لا يحمل الأكياس دائما لإسعاد بني آدم. من يصدق أن النوني نام ليلة من عمره كما ينام مليونير؟ لقد بات مستلقيا على أوراق ناعمة أشبه ما تكون بريش الحمام تفوح منها رائحة غريبة تكاد تكون مثل رائحة الزعفران، و لما استفاق في الصباح أخبر جمانة أن الكيس بالفعل فيه خيوط زعفران كالذهب. انبهرت و هي تتسلم منه الكيس و تدفعه بيدها تحت السرير. طلب منها ألا تفتحه، و سترى أنها ستنعم كل مساء بما تشتهي من الأطعمة و الهدايا، و الباقي سيأتي لا محالة مع الأيام. ثم أخذ يرقص أمامها في حركات خفيفة غير معهودة حتى بدا لها كأن خللا أصابه و هو يحدث نفسه قائلا هذا رزق كبير سيكفيه مدى الحياة. لم ترقص معه، و لم تقل كلمة، لكن فرحة غامضة لاحت في عينيها و هما تلمعان، و من حين لآخر تدمعان فتمسح دموعها و ترفع صوتها ضاحكة دونما سبب. خانها الحظ ذات ليلة تعيسة ، فلم تدر و هي تسحب الكيس من تحت السرير أنها ستنهي في لحظة قصيرة حياة مليونير. ضايقتها رائحة الزعفران التي صارت في وقت وجيز شبيهة برائحة ثوم فاسد. نسيت أن النوني حذرها طويلا، فانشغلت بالرائحة التي ملأت المكان إلى أن جرت الكيس و هي تتأفف، ثم أسرعت لتلقي به في صندوق القمامة على رصيف الشارع المحاذي لبيتها. دفنته بامتعاض بالغ كأنها تدفن شيئا تخشى أن ينتشر أذاه في كل الأحياء. و لما عاد زوجها من عمله أخبرته و هي تعتز بما فعلت كأنما خلصته من عبء لن يقدر على حمله. اهتز النوني مثلما لو أن قنبلة قوية انفجرت بداخله. خلع معطفه بسرعة و هرع حافيا نحو الصندوق الأسود المهترىء . طوقه بذراعيه و أدخل رأسه إلى قاعه و جعل يتشمم ويبحث بعينيه. لا توجد رائحة زعفران. كان فارغا عفنا مثل جوف بهيمة ميتة. رفع رأسه باستياء و راح يعدو باتجاه مزبلة المدينة حيث تلقى النفايات التي تجمعها الشاحنات من جميع الأحياء. كانت على بعد كيلومترات، لكنه لم يعبأ بالطريق و مكث يعدو كأنه يتبع طريدة يوشك في كل لحظة على أن يمسك بها. وقف لحظات يدور ببصره في أرجائها الممتدة يمينا و شمالا ، و حيثما نظر رأى أكياسا بألوان مختلفة. ثم راح ينبش بيديه و قدميه في كل مكان حتى تعب. تلطخت ثيابه و تغير لون ذراعيه و وجهه. رفع رأسه إلى السماء و لم ير غير شمس حارقة ثابتة بمكانها لا تتحرك. تراجع خطوات و جعل يتأمل المزبلة. كانت شاسعة تفوح منها رائحة كريهة. هل هذا أيضا أمر لا يدركه سوى مليونير؟ قال لها حانقا: - لم أكن أعرف برغم هذه السنين الطويلة التي جمعتنا أنك غبية إلى هذا الحد. اعتذرت قائلة : - سامحني، أنا أيضا لم أكن أتخيل أنني سأرتكب يوما خطأ كهذا. - إنه خطأ قاتل يا جمانة. لقد قطعت رأسي. أنا الآن بدون رأس. ماذا تفعلين بي بعد اليوم؟ لم ترد عليه فأضاف: - هل يوجد على الأرض واحد من سلالة آدم لا يميز بين النقود و النفايات؟ أم أنه لا فرق بينهما في الواقع و أنا لا أعلم. أرجوك ، أخبرني فربما أكون أنا المخطئ . جمدت بمكانها لحظات ثم تحركت ببطء وهي تواسيه: - لا تقنط.. قاطعها بصوت غاضب: - كيف لا أقنط و أنت حرمتني من الحياة و حرمت نفسك أيضا. - اسمع يا نوني، لا تقنط ، سيأتيك الله برزق آخر يعوض لك به ما ضاع. أنت مؤمن وسخي . لن يخيب ظنك أبدا. قال ساخطا: - أنت معتوهة و أنا لا أعلم. في لحظة سهو عابرة لم تعد تذكر أنه قال لها إن في الكيس ما يكفيه للعيش في النعيم مدى العمر. اطمأنت لكلامه وهي ترى جيوبه مثقلة بالنقود و يديه مائلتين و هما محملتان بالفواكه و الهدايا. سعدت و إن لم تفهم ما كان يجري و قد اقتنعت أن أمورا كهذه لا يفهمها سوى مليونير. لاشك أنها معتوهة. تضحك فقط و تمضي لتنظيف البيت و إعداد الطعام. ماذا أصابها في تلك الليلة فتصرفت كما لو أنها فقدت عقلها فجأة؟ دار النوني برأسه و أطلق صرخة مدوية انتفضت جمانة على إثرها و هرعت نحوه. أمسكته من ذراعه و سألته: - ماذا بك؟ تبدو كأنك خرجت من كهف. رد عليها فورا: - بل خرجت من مزبلة. ثم أردف: - قضيت و قتا طويلا أبحث عن الكيس. - ماذا تخفي عني يا نوني؟ - لا أخفي عنك شيئا. الأمور كلها كانت تجري أمامك لكنك كنت عمياء. حدقت فيه باستغراب. هل جن؟ تساءلت فنفي بإيماءة من رأسه و قال بثقة إن هذه هي أحوال ذوي المال، و راح يحكي لها و هي تنصت له بانتباه. أبدت أسفها و أدارت و جهها و همت بمغادرته، لكنها تراجعت و دنت منه حتى التصقت بجسده و همست في أذنه أن مياه النهر تتدفق دائما. لم يعبأ بها و استلقى على الفراش و جعل يتأمل سقف الغرفة دون أن يتكلم. الرباط 2010