تعرف المرحلة الحالية التي يمر بها بلدنا تنافرا شديدا بين القانون الجنائي المغربي وواقع المجتمع، ما يفضي إلى ثلاثة أمور يلاحظها الجميع: تجاهل المواطنين لبعض القوانين غير المتناسبة مع نمط حياتهم. تسامح السلطة مع ممارسات خارج القانون، لعلمها بأن النصوص القانونية متشدّدة مقارنة بواقع الناس ومستوى وعيهم والتحولات التي طالت المجتمع على مدى عقود (هذا التسامح الذي ينقلب إلى رغبة في الانتقام عندما يتعلق الأمر برغبة السلطة في تصفية حسابات سياسية مع طرف ما). تناقض العديد من مواد القانون الجنائي المعمول بها مع نص الدستور، بسبب عدم وجود الملائمة الضرورية مع الدستور المحيّن والمراجع منذ 2011. من هنا كان ينبغي أن تشكل مراجعة وتتميم مجموعة القانون الجنائي لحظة فاصلة في تاريخ المغرب، عكس ما حصل من إقصاء للقضايا الهامة التي هي موضوع نقاش في المجتمع، وتقديم مشروع قانون لا يضمن المراجعة الشاملة والجذرية الضرورية. وإذا كان ثمة تواطؤ ظاهر بين مراكز السلطة التقليدية في الدولة، وبين التيار المحافظ المشارك في الحكومة، من أجل إرجاء موضوع الحريات الفردية على الخصوص وعدم ضمان احترامها في القانون الجنائي المغربي، فإن التيار الحداثي الديمقراطي الذي من المفروض أن يدافع بقوة عن قانون جنائي عادل وضامن لاحترام الحريات، لم يكن في الموعد على الوجه المطلوب، باستثناء حركة “نحن خارج القانون” التي نجحت في إبراز التناقضات التي تتخبط فيها الدولة المغربية، وكذا بعض التحركات الجمعوية النسائية والمدنية والحقوقية والفردية التي لم تنجح في إحداث الضغط المطلوب على السلطة والبرلمان، لإلزامهما بإعادة النظر في مشروع القانون وتضمينه القضايا الجوهرية التي تمّ إبعادها لحسابات سلطوية ظرفية. ومن تمّ فإن المداخل الرئيسية لمراجعة فعلية للقانون الجنائي المغربي التي على الصف الديمقراطي التشبث بها والدفاع عنها تتمثل أساسا في المداخل الخمسة التالية: أن القانون الجنائي وضع سنة 1962 في مجتمع اهتزت بنياته وانقلبت رأسا على عقب على مدى 58 سنة المنصرمة، ولا يجوز بأية حال ترك النص القانوني على حاله بينما خضعت العلاقات الاجتماعية ومنظومة القيم لتحولات جوهرية. أنّ الحريات الفردية ذات صلة وثيقة بمفهوم المواطنة وبمعنى “الفرد” المواطن، الذي بدونه لا تكون ثمة عدالة ولا مساواة فعلية، ما يحتم إخراج الموضوع من إطار الوعي التقليدي والفقه القديم الذي كان معمولا به في ظلّ الدولة الدينية، والذي يعطي الأولوية ل”الجماعة” ولمنظومة التقاليد على حساب الفرد. اعتبار التدين اختيارا شخصيا ووضع حدّ للمناخ السلطوي المهيمن على الفضاء العام باسم الدين الرسمي للدولة. النظر إلى الحريات الفردية بوصفها جزءا لا يتجزأ من منظومة الحريات والحقوق التي صادق عليها الدستور المغربي، ورافعة أساسيا من أجل إنجاح الانتقال نحو الديمقراطية، واعتبارها كما ينص على ذلك الدستور كلا غير قابل للتجزيء وأسمى من التشريعات الوطنية. الاعتراف بحق الفرد في التصرف في جسده كان امرأة أو رجلا، وتجاوز نظرة الوصاية والحجر القديمة التي تجعل من الجسد موضوع رقابة مشددة تنتهي إلى التجريم وتكريس النفاق الاجتماعي، وهدر الكرامة الإنسانية، وإشاعة اللاتسامح والعنف لدى عامة الناس في المجتمع.