اليوم بعث لي الفايسبوك رسالة يذكرني أني صديق مع أحمد المديني منذ أربع سنوات.. الفايسبوك يعرف عنا أشياء كثيرة لكنه لا يعرف مقهى الكموفل في الساحة على شارع الأبطال و لا يعرف ممر الصفصاف و مقالات المثقف المنخرط في الحياة السياسية في “المحرر” و ” الإتحاد الإشتراكي” و كيف إلتقينا أول مرة في الرباط مع المديني الكاتب و الروائي المفتون المتابع بعشق جارف لما تنتجه الثقافة و الآداب في العالم.. هذا العالم الأزرق مغر و مشوق و مجنون أحيانا.. لكن قبل أن يظهر إلى الوجود هذا الكائن الذي دخل حياتنا و مطبخنا و غرف نومنا و غسيل الدار و حدائقنا الخلفية و أسرارنا كانت هناك حياة أخرى صرنا اليوم نتوق إليها و نراها بعين النوستالجيا و الحنين و نعتبرها من بقايا الزمن الجميل.. لم يكن هناك فايسبوك.. لكن كانت هناك حياة و ألفة و صداقات و سكن مشترك و سفر مشترك و أفكار و مواقف تناقش و قصص حب و عداوات و خصومات.. قبل الفايسبوك كانت هناك حياة.. لم نكن نلتق على شاشات الحاسوب و الهواتف الذكية . كنا نلتقي على الواقع في المقهى أو مقر الحزب و الجمعية أو تجمعات و حلقات و خلايا و كنا نلتقي في الدور التي نسكنها في أحياء شعبية و يتحول المنزل إلى مقر قيادة الأركان..يصلح للإجتماعات و الدراسة و النوم و “برتوشا” لمن يبحث عن متع جسد و إسعاد ملائكته.. هكذا كانت الحياة قبل أن يظهر الفايسبوك و يقلبها رأسا على عقب.. يكثر الإتصال فيما ينقص التواصل و المحبة.. في تلك الفترة كان العالم الأزرق هو المقاهي التي إشتهرت كملتقى للشباب و الطلاب و المثقفين و الكتاب و الشعراء و السياسيين و الثوريين.. المقهى كانت “روش” خلية نحل..هناك تضرب المواعيد بدون هاتف نقال و يلتقي الجمع و تعلو الضحكات و يكثر الصخب و الضحك و النقاش و الثرثرات ..و لا حاجة إلى ” جيم” و لا “بارتاجي ” و لا أحاديث اينبوكس متخفية و لا عيون و أبراج مراقبة.. كانت الجلسات تطول الساعات و الوقت متوفر..الليل طويل ما عندو نهاية و شمعي قليل و لونيس معايا .أنت يونس مكري عشت أجواء مقهى موناليزا.. في طنجة كنا نلتقي في البوليفار عند مقهى زاكورة و مقهى ميتروبول ثم قبلها كنا نلتقي في مقهى ” الأمم ” في الساحة قريبا إلى مقر حزب التقدم و الإشتراكية في العقبة على اليسار جهة البحر حيث كراج المرابط.. المقهى كانت مدرسة من لا مدرسة له..في ” النقد” الكروي و في السياسة و الثقافة و أخبار المدينة و قضايا من هاجروا و تركوا مقاعدهم فارغة.. ميتروبول لها ذاكرة كما لمقهى أطلس أسفل الشارع تاريخ من القصص..كانت مقهى ليلية بامتياز..لم أر في المغرب شبيها لها سوى مقهى موريتانيا قرب دار المهدي بنبركة في ديور الجامع التي تحولت إلى وكالة بنكية اليوم.. مقهى أطلس لا تنشط سوى في الليل و من أجل الليليين حتى مطلع الصباح و لك فيها الشاي و البيصارة و الطورطيا و طقطقات البارشي و الدومينو و الكارطة و فنانون حالمون فشلوا و حشاشون و مخبرون .. في الرباط كان مطعم حانة كابري مقرا عاما لكل الحراك السياسي و الثقافي الذي مر من العاصمة و لم تكن “السعدي” و” بار طنجة” و “جور انوي” و باليما و الكتبية في باب الإذاعة و التلفزيون و موناليزا و رونيسونس في وسط المدينة و شاطوبريان و الأليزيه في أكدال أقل إنخراطا في حياة المدينة ثقافيا و إعلاميا و سياسيا.. في “كابري” تأججت معارك الحركة الامازيغية مع القوميين.و إختلط الصحافيون من جنسيات مختلفة.و كان التدافع و المواجهات يحتد و يشتعل أكثر مع توالي الكؤوس. و في موناليزا كان عبد الله ساعف له كرسي ينافس كرسي كلية الحقوق. طبعا كان هناك أخرون نور الدين أفاية و أحمد بنجلون و بشير قمري و عبد الله الستوكي و نور الدين الزاهي و نجيب كومينة و محمد الصبار و محمد أوجار و ما إلى غيرهم. قبل زمن الويب كانت المقهى..و كان لها معنى آخر غير المعنى الذي عليها الآن.. كان يكفي أن تنزل من القطار و تعرف الطريق إليها في فاس أو الدارالبيضاء أو مراكش و تنتهي رحلة متاعبك.. إنك ستجد فيها من يطعمك و يأويك و يعطيك معطفه لتدفأ و يمنحك بيرة و سيجارة و ديوان شعر و تشرع منها قصص صداقات.. صداقتي للكاتب اللامع الكبير أحمد المديني تعود إلى زمن قديم حينما كان يعود من باريس و نلتقي به نضرب مواعيد في مقهى الكموفل باكدال. الجماعة كان يلتئم فيها المديني و إبراهيم الخطيب و عبد القادر الشاوي و عبد اللطيف الدرقاوي و علي أنوزلا و عبد الفتاح الحجمري و عبد الرحيم العلام و عبد الإله التهاني و محمد بوخزار و محمد الهرادي و عبد السلام المفتاحي و عمر جاري و غيرهم ممن نسيت .. جلسات المديني تضج سخرية و فنا و ذوقا و ضحكا. جلسات متعة و سياسة و ثقافة و مؤانسة . خالص المحبة مولاي أحمد..سأبحث عن كتابك الجديد . القراءة لمن تحب متعة أخرى.