منذ شهرين تقريبا، وبسبب الرداءة السياسية والثقافية قررت الصيام عن الكتابة والدخول في ما يشبه "الخلوة" الثقافية بتعبير المتصوفة، فكل شيء فقد المعنى و"الملح والسر"، سياسيون ومثقفون يغيرون مواقفهم كما يغيرون ملابسهم أو أكثر، وإعلاميون سطحيون أنصاف مثقفين يتطاولون على القضايا والأشخاص، نفاق وتزييف وفسولة ورعونة وضحالة وقلة احترام، ووضع بئيس يدفع كل من يحترم نفسه إلى التواري خلف الحجاب. هذا عن الغيبة والغياب، أما العودة فقد دفعتني إليها دفعا هذه السوق القائمة، وهذا الجدل المثار المفتعل حول "ترقية الدارجة" الذي فجره نور الدين عيوش، وبغض النظر عن الجهات التي قد تكون وراء صاحب "مؤسسة زاكورة للقروض الصغرى" ودعوته التي تطرح أكثر من علامة استفهام، خاصة بعد قصاصة وكالة المغرب العربي للأنباء، وبغض النظر عن التوظيف السياسي للقضية والمزايدات الحزبية. فالقضية بالغة الأهمية وشديدة الخطورة، وهذا ما أخرجني من عزلتي، كأناس كثيرين لعل من أبرزهم المفكر والمؤرخ عبد الله العروي رغم تحفظي على خروجه بهذا الشكل غير اللائق بتاريخه وقامته الفكرية. حيث كانت حلقة برنامج مباشرة معكم حلقة سطحية تبسيطية خالية من العمق الفكري وهذه نتيجة طبيعية "لمناظرة" بين الفكر والرأسمال، بين العمق والسطحية، بين المثقف والملفق، بين من يرى أن التنوع الثقافي والثراء اللغوي هو معرفة "الخيزو والجعدة". وأن مسألة اللغة هي مسألة صفقة تجارية ينبغي التفاوض بشأنها للتوصل إلى حل وسط.
على أية حال يمكن تسجيل عدة ملاحظات حول هذا النقاش المفتعل:
1-بداية لا بد من القول أن هناك تغليط ممنهج ومقصود فالربط بين أعطاب التعليم المزمنة المتوارثة منذ الاستقلال ولغة التدريس هو ربط غير دقيق، فقد جربنا الفرنسة والتعريب، فالتسرب الدراسي أو الهذر ليس ناتجا عن لغة التعليم، والهذر ليس هو مشكلة التعليم الوحيدة، فالمدرسة هي مؤسسة لتمرير مشروع مجتمعي متوافق حوله يضمن قيم المجتمع وهويته بأبعادها الدينية والثقافية والإثنية، ويستطيع المنافسة تنمويا واقتصاديا، وهذا ما كان غائبا طوال الفترة السابقة بسب غياب الديمقراطية. فالتعليم كان ساحة لصراع سياسي وإيديولوجي بين المخزن وقوى اليسار وبالتالي تحكم الهاجس الأمني عند التخطيط للتعليم، وحل الخبراء الأمنيون مكان الخبراء التربويين، والآن يراد له أن يكون ساحة للصراع بين التيارات "الحداثية" والتيارات "المحافظة".
2- اللغة العربية غير مقدسة، لكن لغة القرآن بكل تأكيد هي لغة مقدسة معجزة متعبد بها، وهنا لابد من رفع اللبس والتلبيس، إذ أن الانكباب على تطوير اللغة وإعطائها الفاعلية والحيوية، وتيسيرها للمتلقي بشكل سهل هو من التحديات القائمة التي ينبغي على أهل الاختصاص الاشتغال بها. ولا ينبغي للغة أن تكون عائقا وهذا ما يدركه المغاربة، العلماء والفقهاء منهم، منذ عشرات القرون ففي المساجد تلقى الخطب باللهجات المحلية في مناطق سوس والريف والأطلس، وكثير من المتون الفقهية تمت ترجمتها لتكون في متناول المتلقي والمخاطب. الهجمة على العربية المنعزلة لا ندافع عن لغة تواصل ندافع عن هذا بعيدا عن الانفتاح وعن التلاقح الحضاري فالعرب هم من ترجموا التراث الإغريقي واليوناني وقدموه للبشرية في طبق من ذهب وأدب.
3- اللغة العربية تتعرض للإقصاء والتهميش بشكل ممنهج منذ الاستقلال، فاللغة العربية غائبة في مجالات الإدارة والاقتصاد والدبلوماسية بشكل رسمي، فلغة رجال الأعمال والتكنولوجيا والتدريس العالي والبحث العلمي والتكوين المهني هي الفرنسية والإنجليزية، بل إنه حتى في لغة الصحافة والجرائد والإعلام بدأ الاعتداء، بل يمكن الزعم أن هناك مخططات ومحاولات لهز مكانة اللغة العربية في النفوس خاصة في مجال الإعلام الالكتروني والورقي فإن هناك تعمد لنشر الأخبار والمقالات دون مراجعة بأخطاء قاتلة في الإملاء والتركيب والنحو والصرف والميزان أما البلاغة والفصاحة والبيان فهذا شأن ثان.
4- اللغة العربية كسائر اللغات لا تقتصر وظيفتها على الجانب التواصلي، فاللغة هوية وثقافة ووجدان وتاريخ وعمق تراثي يراد منا الانفصال عنه وفق مخطط كبير لتنميط العالم، ولابد من فتح حوار علمي هوياتي ثقافي وطني من متخصصين مستقلين وليس موظفين مأجورين عند مؤسسات أو أشخاص مثل الأستاذ عيوش، حوار يهدد الأهداف والمرامي والغايات واستراتيجية التعليم.
5- إن هناك صراعا بين الدول لنشر ثقافتها ولغاتها في العالم من خلال برامج لتأسيس معاهد ومدارس لتدريس اللغات، لأن الدول تدركا إدراكا عميقا اللغة وسيلة لنقل القيم الحضارية والثقافية، بمعنى أن الغزو القيمي والثقافي يمر عبر بوابة اللغة. ولاحظ الصراع القائم بين الانجلوسكسون والفرنكفون على نشر لغتيهم في العالم.
وختاما لابد من القول أن النقاش حول "العامية لمغربية" في حلقة "دوزيم" وعلى الصحف عرى المثقف القابع في عزلته الإيديولوجية وسباته الأكاديمي، المنعزل عن حركية المجتمع، الغائب عن الواقع، الذي توقفت حركية المجتمع وتطوره عنده في حقبة السبعينات والستينات ولا يتحدث إلا بأدبيات الحقبة، وبين أنصاف المثقفين من البراغماتيين والكفاءات التنفيذية الحاضرة الفاعلة المؤثرة في الواقع المؤهلة والقادرة على التنفيذ، فرق كبير بين أنجزنا وفعلنا ونفذنا، وبين قلنا ونظرنا وطرحنا وغبنا. وفرق كبير بين هذا الذي يتعامل مع اللغة بشكل فولكلوري ومع المغاربة كأنهم كائنات جامع الفنا "أولا لا لا " ويتحدث بدارجة مكسرة دارجة الجيل الثالث من المغاربة المهاجرين أو "الزماكرية"، وبين من يتبنى مشروع وطني للنهوض بالتعليم ولغة التعليم ومقاومة التسيب القيمي والميوعة الإيديولوجية، والتصدي لمشاريع مسخ الهوية وترسيخ الغزو الفرنكفوني ثقافيا ولغويا.
إن تعدد روافد المغاربة الثقافية الأمازيغية العربية الإسلامية الإفريقية المتوسطية الأندلسية وانفتاحها على سائر الحضارات، كان عبر مراحل التاريخ مصدر غنى وثراء للهوية المغربية وكانت اللغة العربية هي حاملة هذا الميراث وحافظته، فلماذا يراد اليوم أن نتخلى عن كل ذلك استجابة ل"نزوة لغوية" هي لغة ثالثة وسيطة هجينة.