في الستينيات من القرن 20 كان المغرب منشغلا بالصراع بين القصر والمعارضة. في السبعينيات كان المغرب منشغلا بالمجهود الحربي في الجبهة الجنوبية. في الثمانينات كان المغرب منشغلا بإخماد الانتفاضات الحضرية. في التسعينات كان المغرب منشغلا بترتيبات بناء الثقة داخل الحقل السياسي لضمان انتقال سلس للمُلك. في العشرية الأولى من القرن الحالي كان المغرب منشغلا بورش طي سنوات الرصاص. هذه الانشغالات لم تكن تسمح للعقل العام للدولة أن ينتبه لتدبير المدن، إلى أن جاءت العشرية الحالية التي أظهرت أن المغرب منشغل بإخراج أساسات التنمية من باطن الأرض.. وهي الأساسات التي لن تقوم لها قائمة إلا إذا نهضت أصلا في الدارالبيضاء. وهذه هي المهمة الأساسية والوحيدة التي أنيطت بالوالي الجديد خالد سفير. صحيح أن خالد سفير ينتمي ل «نادي الكبار» وينتمي لسلالة خريجي المدارس الهندسية الكبرى.. وصحيح أن خالد سفير معروف عنه أنه «كاميكاز» في عمله إلى حد التعبد.. لكن الصحيح أيضا هو أن كل من تعاقب على تسيير الدارالبيضاء في العهد الجديد كانوا يتميزون بنفس المواصفات. فإذا استثنينا مرحلة محمد حلب التي كانت مليئة بالتوتر وبالبلوكاج، نجد أن كل ولاة محمد السادس بالبيضاء ينحدرون من البلاط أو «السرايا»، (La cour ou le serail) وكلهم من عيار ثقيل في مجال تخصصهم: فسليمان العلوي ومحمد الظريف بوصفهما الماسكين لأسرار العلبة الأمنية، وبنهيمة والقباج وبوسعيد بوصفهم من المهندسين المتمرسين الذين لا يجادل أحد في كفاءتهم العالية. من هنا وجاهة السؤال التالي: ما الذي سيضيفه خالد سفير كقيمة مضافة مقارنة مع زملائه الذين سبقوه، علما أن نفس البنية التي اشتغل فيها الولاة المذكورين هي نفسها الموجودة حاليا ولم تتغير: طوابق إدارية متعددة، عمالات مفككة بدون اختصاصات، مجالس منتخبة معطوبة، مصالح خارجية بدون بوصلة، مناشير وزارية ضبابية، قوانين متضاربة، إدارة مركزية تائهة، نخب حزبية متكلسة، أبناك جاحدة في حق البلد ومقاولاته... (أنظر ص: 9) الجواب يكمن في أن خالد سفير مسنود بسياق جديد لم يتوفر لأي شخص. ألا وهو سياق الخطاب الملكي حول الدارالبيضاء في افتتاح الدورة التشريعية بالبرلمان، إذ لم يعد مقبولا أن تبقى الملفات «تتجرجر» في مكاتب العمال ومكتب الوالي بدعوى أن المسطرة تقول كذا وبأن المرسوم الفلاني ينص على كذا وبأن المندوب الجهوي لوزارة ما تغيب عن الحضور ونحتاج إلى تأشيرته. فمن قبل كان الوالي مثل «ابن عرفة» لا سلطة له ولا هامش واسع يتحرك فيه.. فإذا أراد إنجاز طريق مهيكل لفك العزلة عن أقطاب حضرية يسخسخه وزير التجهيز والمحافظ العام للمملكة ومدير الأملاك المخزنية ومدير الشؤون القروية والوكيل القضائي للمملكة ورئيس المجلس الجهوي للحسابات، ويتمرد عليه الخازن العام للمملكة ومدير وكالة الحوض المالي، ويزرع له المنتخبون والمافيا «جلوف البنان» حتى لا ينجز المشروع. وإذا أراد الوالي ترحيل سكان من حي آيل للسقوط يسد الباب عليه مدير صندوق الإيداع والتدبير ويحبس عليه وزير الإسكان «الروبيني» ويغلق عليه مدير العمران التليفون. وإذا أراد إنجاز إصلاح الجبايات المحلية بما يدر على المدينة والجهة الملايير يتحرش به مدير الضرائب وينصب له وزير المالية الكمائن. وإذا أراد إخراج نفق على السكك الحديدية أو بناء قنطرة على الأوطوروت يجد الأبواب موصدة في مكتب السكة أو في مكتب الطرق السيارة. وإذا أراد ردم خطوط التيار العالي لضمان أمن المواطن وجمالية المدينة ينتظر بفارغ الصبر أن يتكرم عليه المدير العام للمكتب الوطني للكهرباء بموعد فأحرى أن يخصص الموارد المالية للمشروع ويعطي التعليمات لمصالحه للبرمجة. وإذا أراد فتح ثكنة عسكرية مهجورة في قلب المدينة القديمة لينعم بفضائها الشباب والأطفال المحرومين من ملاعب القرب يتم قصفه بالمدفعية الثقيلة من طرف الحامية العسكرية. وإذا أراد مواكبة قطب حضري لتصحيح الاختلالات الحضرية بوسط البيضاء يتآمر عليه المركز والمحيط لإقبار خططه أملا في إفشال المدن الفلكية بالضاحية. وإذا أراد ولوج السوق المالي الدولي من أجل الاقتراض لفائدة الدارالبيضاء لتسريع وتيرة التنمية يشحذ إكليروس المالية وأورتوذوكس الداخلية سكاكينهم ضده بالتباكي على زوال السيادة! هذه هي الأعطاب الحقيقية بالدارالبيضاء التي قادت الولاة السابقين إلى المقبرة المهنية. إن جهة الدارالبيضاء تضم 40 ألف موظف جماعي ينتمون لمختلف الوحدات الترابية والمرافق والوكالات التابعة.. وتتوفر على 2000 منتخب جماعي وعلى 33 برلماني وعلى 70 مندوب مصلحة حكومية وعمومية خارجية. كما أن الدارالبيضاء تتوفر على 13 عامل وعلى 600 قائد ورئيس دائرة وباشا وخليفة وعلى 760 شرطي و12 ألف عسكري. هذه الجيوش المدنية والأمنية والعسكرية، المعينة والمنتخبة هي المفروض أن تنشغل باليومي (Le quotidien) وبالعرضي. أما الوالي فهو ممثل الملك وممثل الدولة مفروض فيه أن يهتم بالتوجهات الإستراتيجية للدار البيضاء والحرص على إخراجها إلى حيز الوجود. فإذا انزلق الوالي و«ابتلعه» اليومي سيتعرض للإجهاد والإنهاك. الدارالبيضاء الآن أمامها فرصة ذهبية، وهي أن يؤسس خالد سفير لميلاد جيل جديد من الولاة، أي الولاة الذين يقطعون مع عقلية ومع بروفيل «ابن عرفة». فالمحاور الإستراتيجية الكبرى لتنمية الدارالبيضاء باركها الملك وزكاها ولا تحتاج إلا لمن ينفذها في أجل زمني معقول ومحدد (عدد من هذه الملفات مواردها المالية متوفرة!) وكل مندوب أو وزير أو مدير مؤسسة عمومية أو منتخب أو عامل أو جنيرال أو زعيم مافيا عاكس مصالح المدينة فالطريق سالكة أمام الوالي سفير ليدخل مباشرة إلى القصر الملكي لانتزاع الموافقة على تجاوز العراقيل وانتزاع العقوبة ضد الخونة. ومن يدري فقد تكون مرحلة خالد سفير مقدمة لتمرين النخبة لولوج عالم الجهوية!؟ العدد 541، أسبوعية «الوطن الآن» الخميس 21 نونبر 2013 تعيد نشره "كود" باتفاق مع الكاتب