دولتان عربيتان دخلتا التاريخ لحد الآن، والتاريخ ينتظر، والمتابع النابه يلاحظ أن أشد المحافظين والشرسين في الدفاع عن الاستثناء المغربي لا يتورعون في وضع الجزائر في صدارة الدول المرشحة للثورة، ويشتكون من ظلم قناة «الجزيرة» التي لعبت دور التهييج في تونس ومصر وامتنعت عن ذلك في الجزائر! وأنا كمغربي أفهم وأتفهم هذا الموقف المعلن من طرف البعض والمضمر من طرف غالبية النخبة المغربية، فمآسي المغرب في جزء كبير منها نابعة من قضية الصحراء حيث كانت مفرملة للديمقراطية والتنمية، وقضية الصحراء مصدرها الجزائر، والجزائر المعادية للمغرب هي جزائر نظام منبثق من الحرب الباردة، وقضية الصحراء هي قضية ملك وشعب في المغرب، وهي قضية نظام فقط في الجزائر، وانقلاب الأوضاع في الجزائر إلى حكم الشعب بدل العسكر يعني نهاية قضية الصحراء بعد أن يصبح البوليساريو صاحب قراره فعلا، ونهاية قضية الصحراء لا تعني فقط بداية ثورة إرادية سياسية واقتصادية واجتماعية في المغرب، ولكن ستكون عهداً جديداً مشمساً في المغرب العربي الصغير على الأقل، في انتظار تحول ليبيا القذافي التي توجد الآن خارج المنطق. البحرين تتحرك، واليمن كذلك، والجزائر قبلهما، ومن الطبيعي أن ترتفع درجة الحرارة في المطالبات الشعبية مادام أن حرارة الخصاص والضيق هي المشترك بامتياز بيننا من المحيط إلى الخليج. في المغرب هناك «شباب 20 فبراير» الذي دعا إلى الاحتجاج عبر التراب الوطني يوم الأحد وأصدر بياناً لا تخرج مطالبه عما يوجد في رفوف كل الأحزاب، بل حتى في توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، باستثناء ما جاء في بيانهم من «حل الحكومة والبرلمان وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة تخضع لإرادة الشعب». وإذا كانت تنظيمات وازنة قد قررت عدم الانجرار وراء هذه الحركة الشبابية غير الواضحة المعالم من مثل حزب «العدالة والتنمية»، فإن فرع الرباط للكنفدرالية الديموقراطية للشغل قرر الاحتجاج في نفس اليوم ببيان ناري أيضا، أغلب المطالب فيه سياسية، وتبقى جماعة الشيخ ياسين لحد كتابة هذه السطور محافظة على الغموض «المنتج» ما بين المشاركة من عدمها والجديد هو إعلان 14 من المنظمات والجمعيات ضمنهم الجمعية المغربية لحقوق الإنسان دعمهم ومساندتهم للحركة. والدولة لم تبق مكتوفة الأيدي، فوزير الداخلية استقبل حتى خصوم الأمس القريب من أصحاب عبد الإله بنكيران، والوزير الأول المسكين دفع إلى لقاء زعماء أحزاب الأغلبية والمعارضة، وفؤاد عالي الهمة أحيى «جمعية لكل الديموقراطيين» ليفتح كعادته باب التأويلات، وحل مشكل أكثر من ألف من حاملي الشهادات المعطلين يتم التعامل معه بجدية، والعيون والآذان مفتوحة عن آخرها على ما يجري في الصحراء، والترقب الحذر هو سيد الموقف. وضمن كل هذه الحركة الطبيعية لدولة حيَّة تتفاعل مع محيطها، اختار وزير الخارجية الطيب الفاسي الفهري أن يسجل الحدث بخروج تلفزي عزّ في ظروف كانت تتطلبه أكثر. فلم يتواضع السيد الوزير ويتحدث مع المغاربة في قضية أميناتو حيدر، ولم يتواضع ولم يأت للمساءلة في لجاج قضية مخيم «اكديم ازيك»، وجاء اليوم ليقول إنه جاء بدون سبب، وهذا هو قمة العجب. اختار الطيب الفاسي الفهري برنامجاً خاصّاً بدل البرامج الحوارية التي يحضرها كل الوزراء والزعماء والأمناء والنشطاء واختار إخراجه، حيث كانت تتوالى أمامه شخصيات من العيار الذي يليق بصاحب المقام من رئيس الباطرونا إلى رئيسة حقوق الإنسان إلى رئيسة لجنة الخارجية بالبرلمان إلى الوزير السابق، المهم أنه فرض رحلة نحونا كمشاهدين ليس في الدرجة الأولى، ولكن، في طائرة رئاسة خاصة، وليته كان في طائرة «الإير. فورص. وان» الرئاسية الأمريكية وقال لنا ما يشفي الغليل. لنبدأ بالشكل، لقد «دگدگ» وزير خارجية المغرب اللغة العربية. ولو تحدث بالفاسية لكان أسلم له ولنا، فالمغرب، حسب الفاسي، «لا يجب أن يطيح في الفخ»، أما المغامرة فهي «المغاورة»، وأما إضعاف الموقف فهو «تضعيفه»، وأما إغناء الساحة فهو «تغنيتها» وأما «الفصل بين القضية والعلاقات الثنائية» فهل «التفصيل بينهما» وهلم تكسيرا وتعنيفا وضربا وجرحا، وكان لابد أن يطرح السؤال المنطقي: بأي لغة يتحدث الفاسي الفهري مع الأشقاء العرب وفي الجامعة العربية ليدافع عن المصالح الحيوية للبلاد؟ أما المضمون، فقد جاء الطيب ليقدم حصيلة قطاعه بنوع من الارتياح: وضع متقدم مع أوربا يحسدنا عليه الخصوم، وانتصار في قضية مخيم «اكديم ازيك»، ونفاذ إلى إفريقيا ووو. هل الظرف الحالي وطريقة إخراج الخروج المبارك للفاسي الفهري كانت تستحق أن تكون كذلك الجبل الذي ولد فأراً؟ ربما كانت للطيب الفاسي الفهري إشراقة تصوف حين قال بأن سقوط جدار برلين أسقط أنظمة أوربا الشرقية برمتها لأنها كانت أنظمة متشابهة شيوعية منغلقة، أما العالم العربي فهو مختلف تماما، وهذا صحيح لغرض غير صحيح، فإذا جاء الفهري ليقول لنا إن المغرب غير معني أساسا بما يجري، فلماذا جاء أصلا ليقول هذا الكلام؟ وحبذا لو كان الطيب الفاسي الفهري حاذقا وجعلنا نحس أنه يمكن للمغاربة أن يتغاضوا عن وزير لم يخرج لا من حزب ولا من برلمان ولا من انتخابات شريطة أن يكون هذا الوزير فلتة زمانه وطائرنا النادر، ولكن الوزير القوي خيب الظن وجعلنا غير معنيين، مع العلم أننا المعنيون الأولون ولو بمجرد أننا كنا سباقين إلى بعض الأشياء من مثل قطع حبل تدشين الانتقال الديموقراطي، أو ولو من باب الانتماء إلى هذا المحيط الذي كنا فيه بالقليل نعتبر قدوة فإذا بنا بالكثير نحس فيه أنه علينا أن نتبع. إننا معنيون بمواصلة التغيير في الديبلوماسية أيضا التي احتقرت المغاربة عندما لم تحدثهم إلا عن مؤامرة الصحافة الإسبانية حتى خرج ملايين المغاربة لينددوا بها، فكان أول لقاء صحافي للفاسي الفهري مع نفس هذه الصحافة من خلال مراسل «إيل پاييس» الذي قال الوزير بعد صدور الحوار معه إنه سيقاضي الصحافي لتحريف كلامه! ألا نذكر اليوم تونس التي «أقيل» وزير خارجيتها لمجرد أنه أشاد بوزيرة خارجية فرنسا التي سبق أن عرضت على بنعلي مساعدة بوليسية خلال مخاض الثورة؟ لماذا سيكون أول وزير يطل علينا في هذه الأجواء العربية المتحركة هو وزير الخارجية الذي يراكم الإنجازات في إحصاء الأعداء والمتآمرين والمتربصين بدون فتح ولا انتصار إلا تكرار الأسطوانة المشروخة حول الشراكة المتقدمة مع الاتحاد الأوربي؟! أليست وزارة الخارجية نفسها بدواليبها وسفرائها وقناصلتها ودورهم التواصلي الميت وسورياليات تعاملهم مع جاليتنا وهزليات تحركاتهم وأخطبوط العلاقات الزبونية في العديد من خرائطهم مدعاة للقول إننا معنيون بالتغيير؟ هل هذا يا معالي الوزير خطابٌ للمرحلة؟ هل مازال في قصبة مخيم «اكديم ازيك»، الذي صوره الأعداء كمحرقة -كما تقولون- واستطعنا نحن أن نصوره على حقيقته، مزيد من السكر حتى نمصه مرة أخرى؟ أليست الأغنام وحدها التي تقوم بعملية الاجترار، وهي للذين لا يفهمون العربية الفصحى إخراج الشاة لما رعته في النهار لتعيد مضغه في المساء؟ نعم، مغربنا حقق تقدما ملموسا مقارنة مع بلدان مشابهة، ولكن ليس بمثل هذا الخطاب يمكن أن نثمن ما تحقق ونواصل التقدم ونعطي للمغاربة، نخبة وعامة وشباباً، كلمات تقنعهم لا كذباً مغلفاً في ورق الهدايا البراقة. رجاءٌ في الأخير: نناشد جميع الوزراء، وخصوصا الوزير الأول، أن يصمتوا في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر منها أمة محمد، فالصمت أسلم، واللهم احفظ المغرب.