لم ينتحر العفيف الأخضر، بل وضع حدا لموته. كان مريضا ومشلولا ولم يعد يقوى على الكتابة، فقتل موته. مثل العفيف الأخضر لا ينتحرون. لم يقو فحسب على رؤية الموت كل يوم، فتخلص منه. إنه درس في حب الحياة وفي الأمل وفي دفع خطر الموت ومنظريه والتحذير منهم، لذلك لا تقولوا إنه انتحر. هذا ليس صحيحا.
وأنا مراهق، رن اسم العفيف الأخضر في رأسي لأول مرة، بعد أن أهداني شخص أحترمه كثيرا كتاب البيان الشيوعي مترجما إلى العربية، وقال لي هذا التونسي هو الأفضل، وحذرني من قراءة الترجمات المشرقية التي كانت تشوه ماركس، وتصنع ماركسية عراقية وأخرى سورية، وثالثة ستالينية، ناهيك عن الأخطاء.
قال لي ذلك الشخص: هذه هي أفضل ترجمة موجودة للبيان الشيوعي، وأتذكر الغلاف ودار ابن خلدون واسم العفيف. ولأني كنت أسعى باندفاع المراهقة لأصبح ماركسيا محترما وغير مزور، فقد قدرت منذ ذلك الحين اسم العفيف الأخضر، وأصبحت له رنة خاصة في أذني، وبفضله أصبحت أشك في كتب موسكو وفي العراق ولبنان وجورج طرابيشي، وصرت شبه مقتنع أن الشرق تأتي منه الأخطاء والمصائب ويأتي منه أيضا الأدب الجميل في نفس الوقت.
انتمى العفيف الأخضر إلى الجيل الأول من الماركسيين العرب، وقد كان أشجعهم وأكثرهم نقدا لممارسات الأنظمة والأحزاب التي تتبنى هذه الإيديولوجية، كما كان أول من تراجع ومن أخذ مسافة من الديكتاتوريات اليسارية المنتشرة في العالم.
هرب ذات يوم من البورقيببية ونزعتها السلطوية والأبوية لاجئا إلى الماركسية، لكنه عاد إلى بورقيبة مترحما عليه وعلى نموذجه الذي قدم للتونسيين والعرب ما لم يقدمه أي زعيم عربي كان يرفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروات.
كان العفيف أول من رأى وأول من فهم واستوعب عن حق هول تلك الأنظمة، وحينما ذهب إلى ألمانيا الشرقية اكتشف أنها هي التعريف الدنيوي لجهنم، وأن الحرية توجد خلف الجدار، واكتشف أن الاتحاد السوفياتي هو ديكتاتورية بشعة ودولة إمبريالية وأن جمهورية الصين لا تختلف عنه كثيرا. في ذلك الحين تأكد العفيف أن أمريكا ليست وحدها عدوة الشعوب بل الاتحاد السوفياتي أيضا.
من الصعب في ذلك الحين ألا تكون ماركسيا، وأن تعلن عن ذلك ثم تتراجع وتنتقد قناعاتك، فهذا يعني أنك عميل وتتخابر مع الأعداء، وفعلا اتهم اليسار العفيف الأخضر بما لا يخطر على بال، وظل فقيرا فوضويا يعيش على الترجمة ويقرأ ويصدم الإيمان الماركسي الأصولي. وقد قالها العفيف بعظمة لسانه: كان اليسار يراني يمينيا واليمين يراني يساريا.
في السنوات الأخيرة وقبل أن يبعده المرض وتختفي مقالاته التي كانت موجهة لانتقاد الإسلام السياسي وتدافع عن الحداثة والعلمانية وروح العصر التي لا تقبل في ما يشبه الحتمية أن تستمر التقاليد البالية ومناهضة حقوق المرأة في الوجود، كان العفيف الأخضر في هذه السنوات خصما لليسار وللمحافظين على حد سواء، وكان اليسار يرى فيه ليبراليا والمحافظون يرون فيه علمانيا، وكان هو مستمرا في رحلة بحثه عن الحرية والتقدم ومراجعة الأفكار وعدم الوقوف على يقين ثابت. وبالفعل انتهى المطاف بالعفيف ليبراليا متحمسا لليبرالية ومفاهيمها هو ومجموعة من الأسماء اليسارية التي غيرت قناعاتها، والتي كانت تنشر مقالاتها في موقع إيلاف وفي جرائد أخرى، واتهمت بالنيوليبرالية وبالعمالة للغرب، وكانت تشترك في مهاجمة الجماعات والأحزاب الإسلامية، وتنتقد النزعات المحافظة في المجتمعات أكثر من انتقادها لأنظمة حكم مثل نظام حسني مبارك في مصر أو زين العابدين بنعلي.
لم يركب العفيف الأخضر على الربيع العربي، ولم ينخدع بشعاراته واندفاع شبابه، بل كان صادما وحرا وليبراليا، بين نخب وشعوب تعتبر الليبرالية تهمة وسبة وشتيمة، وخائفا من المصير الذي ينتظر تونس ومن الفاشية المتربصة، ولم يسع كما فعل الكثيرون لنيل رضى الجماهير والمتحمسين، ونادى بكتلة يكون قائدها الباجي قائد السبسي، ولم يستمع إليه أحد للأسف، وشكوا فيه وانتقدوه.
سيقول اليسار اليوم إنه كان معنا، والحال أن العفيف الأخضر انتهى ليبراليا، ولأول مرة تصبح للعرب أيقونة ليبرالية يمكن للليبراليين أن يسيروا على خطاها، بعد أن قضت القومية والسلطوية والأحزاب اليسارية على تجربة حزب مثل الوفد في مصر وهمشت مفكرين وأقلاما حرة ومنفتحة.
إنه فكرة الليبراليين التي عليهم أن يفتخروا بها ويرفعوها عاليا ويطوروها.
لم ينتحر العفيف الأخضر، وتكريمنا لروحه أن نتذكر أفكاره وليبراليته وبراغماتيته وإيمانه بالنخب التي يعتمد عليها في أي تغيير ممكن.
قد أتجرأ وأدعي أن ما حلم به العفيف الأخضر هو أن يخترع العرب بورقيبة جديد، بورقيبة خال من نزعة عبادة الفرد ومن استبداد بورقيبة التاريخي واحتكاره للسلطة، لكنه غادر للأسف وهو يرى المجتمعات العربية تختار طواعية كل هؤلاء الذين كان يحذر منهم.