في إنتظار تحرير القطاع السمعي البصري و فتح المجال أمام المستثمرين الخواص لتوفير منتوج غزير يوفر إمكانية الإختيار و يجعل الجودة معيارا أساسيا للنجاح و الإنتشار و حصد أكبر نسب المشاهدة ، و في إنتظار أن يرفع الساسة و أصحاب المال القذر أياديهم عن القطاع لجعله سلطة حقيقية بعيدة عن التوجيه بسلط النفوذ و الإشهار ، يبقى التعامل مع القنوات العمومية الحالية أمرا حتميا مادامت تعيش بتمويل دافعي الضرائب ، و في غياب إمكانية موافقة أهواء كل المغاربة على شبكة برامج موحدة لإختلاف إهتماماتهم و ثقافاتهم و درجات وعيهم ، و في غياب أبحاث علمية يشترك فيها علماء النفس و الإجتماع و الإقتصاد و الدين و كل التخصصات التي تمس حياتنا بشكل مباشر و غير مباشر يبقى الحديث عن التلفزة التي نريدها أمرا شبه مستحيل ، إلا أنه لا يختلف إثنان في كوننا نحن المغاربة نعرف بالضبط التلفزة التي لا نريد أن تدخل بيوتنا. و مما لا يخفى على أحد ، فالإعلام سلاح فتاك إما يجعل البلد يربح حروب الجهل و التخلف و إما يخلف عاهات تربوية و أخلاقية يستحيل علاجها ، و إن كانت حرية التعبير هي الأوكسجين الذي يبقي القنوات التلفزية حية حيث يحضر "الرأي و الرأي الآخر" ، فقنوات قطبنا العمومي المتجمد تعيش منذ سنوات داخل غرف الإنعاش رافعة شعار "الرأي و الرأي الوحيد" حيث لا صوت يعلو إلا صوت السلطة التي لا ترينا إلا ما ترى و لا تهدينا حسب ظنها إلا سبيل الرشاد.
و لمن يشكك في كون الإعلام المغربي بأيادي من يمتلكون السلطة الحقيقية و هنا لا أتحدث عن حكومة تصريف الأعمال ، أقول أن يتذكر قضية دفاتر التحملات التي قدمها الوزير مصطفى الخلفي ، و كيف مرغت العفاريت و التماسيح الإعلامية كما يسميها أنفه في الوحل ، و لا حال الإعلام في عهده إستقام كما وعد و لا هو إستقال كما سبق و هدد سيادته ، و لمن لم يكتفي بمثال وزير الإعلام و خروجه منهزما جارا خلفه أذيال دفاتر تحملاته ، أن يتذكر شكاوى رئيس حكومتنا و الذي لا يترك فرصة تمر دون أن يعبر عن حنقه من عدم تمرير تدخلاته كاملة و بأن مقص الرقابة مسلط عليه أكثر من غيره ، لدرجة أنه يشعر أنه ضيف ثقيل جدا عند "سميرة في ضيعتها الإعلامية" دون أن يستطيع الرجل تغيير الواقع في شيء ، اللهم في طلبه من أعضاء حزبه بمقاطعة القناة الثانية ، و ياله من إنجاز حكومي كبير يكفيه لإقناع المغاربة لإعادة إنتخاب حزبه ليقود ولاية حكومية جديدة بعد نهاية الولاية الحالية.
و بما أن عقارب الزمن السياسي المغربي لازالت تشير إلى فصل الخريف و زمن الحرية يفصلنا عنه "ربيع" ، فإن الرداءة التي تطبع المشهد السياسي تم نقلها إلى المشهد الإعلامي لحقن الشعب بجرعات يومية من الذل و الخنوع لتمديد عمر الإستبداد ، لدرجة أن جزء كبيرا من المغاربة محرم عليهم دخول "بلاطوهات عين السبع و دار البريهي" ، و خصوصا أولائك الذين يعانون من قصر النظر السياسي و لا يرون أن العام زين و لا يقبلون عيادة طبيب العيون المخزني ، كما فعل بعض الساسة الذي غيروا مواقفهم الثورية و قناعاتهم السياسية و معها سياراتهم و زوجاتهم و أماكن سكناهم ، و الذين صاروا قبل دخولهم بلاتوهات التلفزة يدخلون قاعات مكياج دار البريهي لتقليم أظافرهم و نزع أنيابهم ليظهروا للشعب كما يرتضيه لهم ساداتهم ، و حتى و إن استضيفوا للحديث في برامج حوارية تبث على الهواء مباشرة فكل مواقفهم السياسية مسجلة سلفا.
هذا دون الحديث عن المسلسلات التركية و المكسيكية و المقتناة من سوق "البال الإعلامي الدولي" ، و التي تشكل خطرا داهما على القيم الثقافية و الدينية للمغاربة ، و الأدهى في الحكاية أن الذين يسهرون على دبلجة هذه "الخردات" يسيؤون للدين الإسلامي و للموروث الثقافي للمغاربة من خلال خلق شرخ فكري و إديولوجي غاية في الخطورة ، حيث لا يكاد يخلو حوار حول الجنس الرخيص و الخيانة الزوجية من ردود من شاكلة "إن بعض الظن إثم للي دارها الله مزيانة صلي على النبي الخير فيما اختاره الله" ، كما أن برامج "الشطيح و الرديح" و مسابقات الغناء و الرقص لا تنتهي أبدا و كأننا نعيش داخل علبة ليلية لا مكان فيها للثقافة و التربية الفنية النظيفة.
في الأخير ، و أنا أكتب عن التلفزة التي لا نريد ، و في إنتظار تلك التي نريد ، تلك التي تشبهنا و تتكلم مثلنا و تهتم بآمالنا و تشاركنا آلامنا و تصارحنا حول أوضاع بلدنا و تخاطب ذكاءنا و تنمي فكرنا و تنتصر لقضايانا ، تذكرت نصيحتي لصديق عزيز اشتكى لي غربته في وطنه حيث ذكرته أن أرض الله واسعة. .