أورد المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار فى ذكر الخِطَط والآثار"، حكاية على لسان أحد التلاميذ لشيخ من متصوفة مصر الإسلامية، الذي اكتشف أسرار الحشيش ونصح مريديه بتناوله ونشره بين الفقراء، يقول فيها ذلك التلميذ: "خرجنا إلى الصحراء، فأوقفنا على النبات، فلما رأيناه قلنا هذا نبات يعرف بالقنب، فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله، ففعلنا، ثم عدنا إلى الزاوية فوجدنا فى قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه، فلما رآنا الشيخ على الحالة التى وصفنا، أمرنا بصيانة هذا العقار، وأخذ علينا الايمان ألا يعلم به أحد من عوام الناس، وأوصانا ألا نخفيه عن الفقراء".
لا صلة بين تلك الحكاية عن الحشيش وكوكب الشرق أم كلثوم، لكن الوصل كله ممدود بين المزاج/الحشيش وبينها. فالمثال الذي ضربناه في بداية المقال يمكن "للست" أن تمر به مرتين، وخلالهما تنزل منزلاً حسناً يليق بقدرها، ولا نقصد بالطبع الإهانة أو أن نضعها بأي شكل من الأشكال في محل للمقارنة بينها وبين مستخرجات نبات القنب، لكن أهل "الصلة" وحدهم هم من سيقدرون تلك المنزلة ويفهمونها.
في المرور الأول، سنجد أن الحشيش، في رواية التلميذ، بهجة لا يجب أن يعرف عنها الدهماء "العوام" لأنهم لن يقدروها حق قدرها بل سيبتذلونها، أما الفقراء/المحرومون، فهم من سيعرف قدر تلك الهبة القادمة إليهم من الجنة!
أولم يحدث ذلك مع أم كلثوم نفسها، ولا يزال يحدث؟ فلقد ابتذلت الطبقة الوسطى، الحديثة منها، تراث كوكب الشرق وسجنته في ثلاث أغان هي الأضعف –على مستوى الكلمات- في مشوارها الغنائي، وهي: "سيرة الحب" و"أنت عمري" و"حب إيه".. فلا يكاد يمر برنامج لاكتشاف المواهب إلا ونجد مشاركاً/مشاركة ما، يعرض موهبته أمام لجان التحكيم من خلال أغنية من الثلاث، كما لا تمر جلسة عائلية أو على المقهى أو في أي تجمع يصادف أن يضم إحدى المواهب الغنائية إلا ويقرر أن يقدم أغنية للست ليصدح بأغنية من الثلاث أيضًا. في المقابل فإننا نجد أن الطبقات الدنيا للمجتمع المصري، بوجه الخصوص، ورغم ما قد يشاع عنها من انحدار للذوق العام، وهو أمر غير حقيقي، تسمع أم كلثوم الحقيقية، وتحفط تراثًا هائلا من أغانيها العظيمة. حتى أن مؤدي المهرجانات (وصف يطلق على الغناء الشعبي في الفترة الأخيرة)، عندما أرادوا استخدام إحدى أغانيها في حفلاتهم، اختاروا أغنية "هذه ليلتي"، قصيدة جورج جرداق الشهيرة. وبالرغم من أن أداءهم لتلك الأغنية بدا شديد السوء وقتها، فإن ذلك لا ينفي أن محاولتهم لاستلهام الست كان عبر أغنية بقدر "هذه ليلتي".
المرور الثاني الذي نريد لأم كلثوم أن تعبر خلاله من المثال سالف الذكر، هي تلك الصلة الغريبة، التي وسمت جلسات المزاج الفعلية، وخصوصاً التي يصاحبها الدخان، بالاستماع إلى أغاني أم كلثوم. فلقد ارتبط المزاج المصري، سواء بظهوره في شاشات الدراما أو على أرض الواقع، بأغاني أم كلثوم، فلا يخلو مشهد سينمائي لبار عتيق في وسط القاهرة من أغنية لها، كذلك لا تخلوا جلسة دخان فوق سطح بناية من موسيقاها. لما مات سيد درويش، وكانت العلاقة الموسيقية لأغانيه قد بلغت ذروتها بالحشيش تحديدًا في نهاية حياته، وجد المصريون أنفسهم – الشيالون والحمالون والبسطاء – منبوذين في حارات الغناء. لم يعد ثمة موسيقي يدنو ليعبر عنهم، فبدأوا البحث بأنفسهم عن ملاذ موسيقي يصاحب مزاجهم، فلم يجدوا شيئاً بعفوية سيد درويش، لكنهم وجدوا حميمية أغاني الست. فالأمر أبعد تاريخياً من ظهور الصورة الملونة على شاشات السينما؛ الشغف المصاحب لحفلة كل خميس – شغف البحث عن مصدر لشراء المزاج. أم كلثوم تظهر لتغني في الليل. لا يطيب السمر إلا بعد العشاء. لحن أنت عمري –تحديدًا- ثم ظهور صوت أم كلثوم؛ إيقاعات كثيرة راقصة لمقدمة موسيقية طويلة، فخفوت تدريجي، ثم يصدح صوت الست من طبقة عالية كأنه يأتي من أبعد نقطة في الذاكرة، مؤكدًا انعدام الزمن "رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا". ثم تعود الموسيقى إلى إيقاعها الراقص مرة أخرى، فيرقص معها صوتها، تماماً كما هو الحال مع نشوة تدخين القنب، حالة من الإيقاع التائه بين نشوة الرقص وانعدام الزمن.
قد ينحسر تأويل المزاج وصوت أم كلثوم، إذا حصرناه في لحن عبد الوهاب العظيم لأغنية "أنت عمري"، لكن الأمر أرحب دلالة من ذلك. إذا لاحظنا أن غالبية المناطق الشعبية القديمة في القاهرة وغيرها من مدن، تعرف جلسات، مزاجها في أغان أخرى، أكثر درامية ورقياً، مثل "هذه ليلتي" و"رقّ الحبيب" و"الأطلال" و"أغداً ألقاك".. وغيرها. حتى أني أذكر مرة، بلغت فيها الغرابة مداها. فقد كنا في جلسة بسيطة في مقهى، أقرب إلى البيت منه إلى الكافيتريا، جلسة مشابهة لما ذكرناه، وطلب أحد الجالسين، وكان كهلاً، أن نشغل أغنية لأم كلثوم، ولما سألناه ماذا يريد أن يسمع، قال: "شمس الأصيل". بالعودة مرة أخرى إلى مثالنا الأول، سنجد أن الصوفي ما زال يصر على استثناء عديمي التقدير من نعمة المزاج. أما صوت أم كلثوم، فلا يستثني أحداً، بل يفتح صدره رحباً للكل، من دون تفرقة، حتى وإن لم يُقدّر حق قدره، لكن العارف الحقيقي هو وحده من يحظى بالمزاج/النعمة.