شاءت الصدف أن يرحل مؤسس ومرشد جماعة العدل والإحسان إلى دار البقاء سنة واحدة بعد انسحاب الجماعة من الشارع إثر مساهمتها في احتجاجات حركة 20 فبراير. طيلة السنوات الماضية من عمر العدل والإحسان كان يصعب على الملاحظ العادي غير التمييز بين الجماعة والمرشد. المرشد هو الجماعة والجماعة هي المرشد، هذا هو الانطباع الذي كان سائدا. بالتالي كانت المواقف السياسية للجماعة تبدو تلقائيا مواقف المرشد. خاصة في نظام حكم فردي لم يصدر يوما بشكل رسمي ما ينازعه، سواء من لدن أفراد أو هيآت الجماعة وخاصة الدائرة السياسية، باستثناء ما قيل ونقل عن الراحل البشيري. لذلك يصبح السؤال عن موقع الجماعة في المشهد السياسي بعد وفاة مؤسسها ومرشدها جديرا بالاهتمام ومثيرا للفضول. في غياب معطيات دقيقة حول تفاصيل الأشهر الأخيرة في حياة الجماعة وصلاتها مع المحيط الدولي (الولاياتالمتحدةالأمريكية تحديدا) والمحيط الوطني (الملكية والعدالة والتنمية بالخصوص)، لا يمكن سوى الحديث عن سيناريوهات عامة. والتساؤل مثلا عمن سيربح أكثر في المرحلة المقبلة
نادية ياسين أول امرأة تقود حزبا إسلاميا؟
تبدو الفكرة اليوم ضربا من الخيال، لكنها ليست مستحيلة. لا تتوفر نادية ياسين على أي صفة قيادية في مجلس الإرشاد أو الدائرة السياسية بجماعة العدل والإحسان، لكنها ابنة الشيخ والوجه الإعلامي الأبرز للجماعة خاصة على المستوى الدولي. انعدام الصفة القيادية في هاتين الهيئتين لم يمنعها من التعبير عن مواقف سياسية وخاضت معارك ودافعت عن طروحات طيلة العشر سنوات الأخيرة. كما أنها ما تزال، عمليا، متابعة في قضية تعبير عن آراء سياسية في حوار صحافي منذ سنة 2005. محاكمة ظهر حينها أن السفارة الأمريكية في الرباط تدخلت فيها لإقناع السلطات المغربية بعدم متابعة نادية ياسين، في بدايات الحب الذي يجمع الأمريكيين بالإسلاميين "المعتدلين" في شمال إفرقيا والشرق الأوسط.
قيادة امرأة لحزب إسلامي محافظ لأول مرة، سيكون بلا شك ثورة حقيقية قد تهدم الكثير من مسلمات الإسلام السياسي المعبر عنها والمضمرة.
لكن نادية تبقى ابنة الشيخ، ولن ينظر لخلافتها إياه سوى على أنه مجرد توريث. في هذا السياق يقول عبد الله الشيباني (زوج نادية) في مقال نشره يومين قبل إعلان وفاته رسميا وحمل عنوان "خليفة الشيخ ياسين ووارث سره": "الناس ألفوا وبُرمجوا على اعتقاد أن في تاريخنا وحاضرنا، قبل أن يموت الشيخ الولي للطريقة الصوفية التي تجمع الناس على الذكر، يعهد لابن من أبنائه بسر الولاية أو لمريد نجيب في الطريقة. وإن لم يفعل هو، يفعل ذلك الأتباع المقدمون. إذ يعتبرون أن لا أحق ولا أقدر على وراثة سر الشيخ سوى من أتى من صلبه أو عيّنه هو (...)وبما أن العدل والإحسان تجمع الناس على الذكر في الرباطات والاعتكافات ومجالس النصيحة، وبما أن مرشدها كان مريدا نجيبا مقدما في الطريقة البودشيشية لم يرث ،فإذن هو شيخ صوفي مقنّع سيقلدُ المشايخَ والمريدون المريدين. هكذا بهذه البساطة التبسيطية يقول مَن يحكم على مشروع ضخم مؤسِّس لمجتمع بديل."
منافسون أم حلفاء للعدالة والتنمية؟
في دجنبر الماضي أعلنت جماعة العدل والإحسان الإسلامية المحظورة انسحابها من احتجاجات حركة 20 فبراير. وعدت الجماعة أنذاك بالعودة للشارع في مبادرات خاصة، مؤكدة أن الاحتجاج لا ينحصر في حركة 20 فبراير. سنة بعد ذلك ظهر بجلاء أن العدل والإحسان لم تحشد الحشود إلا للاحتجاج على ما يقع في سوريا تزامنا مع زيارة هيلاري كلينتون للرباط. كما تراجعت أعداد المشاركين في مسيرات حركة 20 فبراير وتدنى تأثيرها، وحق لعبد الإله بنكيران أن يقول "انظروا ها هو الشارع هدأ بعدما حملني إلى رئاسة الحكومة".
موضوعيا يبدو حزب العدالة والتنمية في موقع المستفيد الأول من هدوء الشارع بارتباط مع انسحاب العدل والإحسان من حركة 20 فبراير. لكن عبد السلام ياسين رحل اليوم وهذا جديد يمكن أن يكون له تأثير ما على مواقف الراغبين من قيادة الجماعة وأطرها في التطبيع مع الدولة وتأسيس حزب سياسي. يمكن اليوم أن نتوقع تراجعا في مواقف الجماعة من مسألة إمارة المؤمنين وتدرجا في قبول شروط اللعبة السياسية لتتحول الدائرة السياسية إلى مكتب سياسي لحزب قائم بذاته. كما يمكن أن نتوقع العكس واستمرار الجماعة في نفس الموقف الرافض للاعتراف بشرعية النظام الملكي وهي الأطروحة التي ارتبطت أساسا بشخص ياسين.
سواء انخرطت الجماعة أم لا في مسار التطبيع السياسي فستوجه قيادتها الجديدة بلا شك اختبار البدايات وسيطرح عليها أن تعلن عن نفسها وتتموقع في صف الحكومة الحالية أو صف معارضيها. إذا اختارت الجماعة الاستمرار في موقعها الحالي فستكون أكبر حليف لحزب العدالة والتنمية وداعما مهما للحكومة التي يقودها. أما إذا اختارت العودة إلى الشارع أو التعبير عن المعارضة في أي صيغة أخرى ذات صدى إعلامي وسياسي فستصير بلا شك المنافس الأقوى للعدالة والتنمية وتتفوق بذلك حتى على حزب الاستقلال، الذي يطمح لاستعادة موقعه في قيادة الحكومة بعد أربع سنوات.
في هذا الصدد يجدر التذكير بالرد القوي لرئيس الفريق النيابي للعدالة والتنمية على صهر عبد السلام ياسين، تحديدا، بعدما نشر الأخير قبل أيام رسالة تسائل رئيس الحكومة بالضبط. في حين حرصت قيادات أخرى في جماعة العدل والإحسان على أخذ مسافة من رسالة عبد الله الشيباني هاته معتبرة إياها "مجرد رأي شخصي".
الأكيد أن كلمة السفارة الأمريكيةبالرباط سيكون لها تأثير في هذا السياق، نظرا للرعاية الخاصة التي يشمل بها الأمريكيون جماعات الإسلام السياسي في ما يسمى ب"الربيع العربي".
ضد المخزن بكرسي فارغ
تعتبر جماعة العدل والإحسان أداءها السياسي طيلة الفترة الماضية انتصارا للشعب من "طاغوت" المخزن. فالملكية والدولة، في نظر الجماعة، "طاغية" لا مناص لتحرير الشعب منها سوى بمواجهتها. لكن الواقع أن جماعة العدل والإحسان قدمت طيلة الفترة الماضية خدمة جليلة للدولة. إذ نجحت مختلف الحكومات، بقيادة الملك طبعا، في تمرير السياسات العمومية التي أرادت دون أن تواجه معارضة حقيقية في البرلمان أو حتى في الشارع. باستثناء الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي تجند العدليون لمواجهتها تحت راية الراحل عبد الكريم الخطيب مؤسس حزب العدالة والتنمية.
بالأمس القريب فشلت الجماعة في امتحان "القومة"، وقبل سنة ظهرت محدودية الرهان على الشارع لإسقاط النظام. اليوم هناك سياسة عمومية تصوغها وتنفذها مؤسسات من ضمنها المؤسسة الملكية، ولا تواجه أي معارضة واقعية وملموسة من لدن جماعة العدل والإحسان. إذا افترضنا أن الجماعة تريد الإصلاح فعلا، مادامت تحكم على الحاصل بالفساد، فلا شك أن دخولها معترك العمل السياسي الطبيعي من داخل المؤسسات يمكن أن يخلخل مياها كثيرة راكدة. كما أن للجماعة أطرا بمسؤوليات اجتماعية وطموحات مهنية وشخصية لا يعقل أن تنتظر رؤيا جديدة لشيخ آخر يبشر بقومة من القومات التي لا تقوم أبدا.
على أن صلات الجماعة بالمخزن لم تكن دائما قطيعة تامة. أو أنها خدمت، من حيث لا تدري، مصالح المخزن. فأعضاؤها كانوا جيشا مسلطا على طلبة اليسار الجذري في وجدة وفاس بحماية من الشرطة مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كما تؤكد ذلك شهادات أشخاص ما يزال أغلبهم على قيد الحياة. بعد ذلك بحوالي عشر سنوات ستلبي الجماعة مجددا دعوة شخصية أساسية من شخصيات دار المخزن لتنخرط في دينامية مواجهة الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وتصعيد المعارضة ضد حكومة التناوب. هذه الحكومة التي، في ظلها، سيكتشف العدليون الاصطياف في الشواطيء ليخوضوا ضدها ما سمي آنذاك ب"حرب الشواطئ".