تقول آخر الأخبار إن إسرائيل تعرضت لأربعة وأربعين مليون هجمة إلكترونية هذا الأسبوع، وأن حماس انتصرت على الكيان الصهيوني وفرضت عليه شروطها وهو الآن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أما الضربة القاضية والتي سترديه قتيلا فسيتلقاها الأحد القادم، وستأتيه إسلامية من الرباط ويسارية من الدارالبيضاء، ويؤكد خالد السفياني إن العدو لن ينجو هذه المرة من مسيرة التضامن. أكثر من نصف قرن ونحن نكذب على أنفسنا ونصدق أن ما نقوله هو الحقيقة، ونتوهم أن رفع شعار عنصري في مظاهرة حاشدة يكفي كواجب، وفي الوقت الذي سنشتم فيه الغرب المنحاز ونحرق أعلامه، سننسى كما العادة أن الأوربيين والإمبرياليين هم الذين يقدمون أكبر نسبة من الدعم للفلسطينيين، وأنهم هم الذين يساعدون على الإعمار وبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية الموعودة، بينما يقوم الأشقاء العرب بذلك، على شكل صدقة ومزايدة على بعضهم البعض، وإمعانا منهم في خلق أجواء التبعية وتقسيم الفلسطينيين إلى خونة ومقاومين. الذين سيتضامنون مع غزة الأحد القادم سيفعلون ذلك بشكل متأخر، ورغم ذلك فهم لا يشعرون بالحرج، لأن مثل هذه الفرصة لا يجب أن تضيع، ويجب أن يخرجوا إلى الشارع، كتعويض عن واجب لا يقومون به تجاه أنفسهم وتجاه المغاربة، إنها فرصة مناسبة لاستغلال الموت وتوظيفه لإثبات وجود غائب هنا في الداخل.
والذين سيخرجون في المسيرة التي دعا إليها خالد السفياني سيشعرون بحرج مضاعف، لأن شخصا يبارك قتل المجرم بشار الأسد للشعب السوري ولا يحرك فيه ذلك ساكنا، لا يمكن من الناحية الأخلاقية أن يدعي أنه مع الحق والعدالة والإنسانية وضد الظلم، فما يقوم به نظام البعث يتفوق على جرائم إسرائيل، إلا إذا كان القتل باسم العروبة والممانعة والقومية يختلف عن القتل في غزة، وإلا إذا كان أطفال سوريا يستحقون ما يقع لهم، وأن إبادة السوريين عن بكرة أبيهم هي خطوة ضرورية قبل مواجهة العدو الصهيوني.
يستغل الداعون إلى هذا النوع من المسيرات مخزون العواطف الجياشة لدى الجمهور، ويظفونها لحسابهم، وبحكم التجربة فلا شيء يمكن أن يجمع الحشود مثل القضية الفلسطينية، ولذلك يسعى كل طرف أن تميل تلك العواطف والمشاعر الصادقة إلى جهته، حيث تحضر الاصطفافات ويحضر اليمين واليسار، في تغييب كامل للعقل ولكل ما يجري على أرض الواقع من مفاوضات وتفاهمات بين المعنيين مباشرة بالأمر.
وسيسعى الإسلاميون في الحكومة إلى استغلال غزة للتنفيس عن عجزهم هنا في المغرب، إنها مناسبة سانحة لتخفيف الضغط وإلى حشد الأتباع، كما لو أن القصف الإسرائيلي جاء كهدية من السماء، وأمام صمتهم الرسمي ومدحهم لوساطة مرسي والإخوان ولقاءاتهم المستمرة مع "العدو"، هناك حاجة ملحة لديهم لتنويم الحشود وترقيصهم وجعلهم يتصببون عرقا وهم يصرخون ويرددون خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سيعود، لكنهم في قرارة أنفسهم يعرفون أن الواقع مختلف تماما، وأن المسيرة هي لمجرد ملء الساحة وإثبات الحضور وتأييد الوهم.
في حين سيعمل اليسار على استرجاع قضية كان يحتكرها في الماضي، قبل أن يدخل الإسلاميون على الخط، لكنهم سيلعبون مرة أخرى في الوقت بدل الضائع، وسيظهر أن فلسطين نفسها لم تعد قادرة على إظهار أنهم يشكلون قوة وأنهم صادقون في ما يقومون به، وأن هذه المسيرة ضرورية فعلا وأنه لا ضير في الخروج ولو بشكل متأخر.
لا أحد فكر يوما في دعوة المغاربة إلى أن يخرجوا في مسيرة حاشدة لاسترجاع عقولهم التي احتلتها العواطف، وإلى التخلص من كل هؤلاء الذين يوظفون مشاعرهم لأغراض تخصهم، فلا يمكن لأحد منا أن يقدم خدمة للضحايا أينما كانوا قبل أن يقدم خدمة لنفسه أولا، بالتخلص من المتاجرين في عواطفه وفي استرداد عقله الذي عاثت فيه سنوات عقود من الإيديولوجيا ومن التوظيف السياسي لقضية عادلة لا يمكن أبدا تقديم أي خدمة أو دعم لها بالخروج إلى الشارع ورفع الشعارات، بل بتحويل الضعف إلى قوة، وبالتقدم وتطوير القدرات وتعزيز قيمة المواطن وعدم خداع الجموع، والنضال من أجل تثقيف الناس وجعلهم يفكرون كأفراد مستقلين، يعرفون ما هي المصلحة وما هي القوة، وأن العدو الذي يقتل لا يمكن هزمه بحرق علمه، بل بالتفكير بالعقل والسؤال كيف أصبح قويا وكيف يعرف عنا كل شيء ويقرأ ويترجم كل ما نكتب ونفعل، بينما نحن منشغلون بمقاطعته وبالإصرار على مديح الجهل به وتخوين كل من يحاول أن يجتاز هذه العقبة، ومحاكمة كل من يترجم قصة إسرائيلية أو رواية، بدعوى التطبيع والتعامل مع الكيان الصهيوني، الذي تربينا على أنه غير موجود، وحينما يرتكب جرائمه، يطلب منا السفياني أن نستمر في اعتقادنا أنه غير موجود وأن نخرج مع ذلك في مسيرة لإدانة جرائمه.