في صيف السنة الأولى من الدراسة في المعهد العالي للإعلام والاتصال، كان التدريب الأول في إذاعة طنجة الجهوية، في مدينة طنجة، في شهر من 4 أسابيع من التردد على المحطة الإذاعية الأقدم في المغرب، والمتواجد مقرها في مدينة سكن العائلة، ما جعل الأمر نصف ممكن من الناحية اللوجيستيكية، واستقبلني مدير الإذاعة في مكتبه، وسلمته ورقة التدريب، وأخبرني أن تدريبي سيبدأ انطلاقا من أول الأسبوع، يوم الإثنين، وحملت حقيبتي اليديوية، وغادرت مبنى الإذاعة في إحدى العمارات التاريخية في أحد الزقاقات الخلفية للشارع الرئيسي، المسمى رسميا بشارع محمد الخامس، وشعبيا متعارف عليه باسم البولفار في عاصمة البوغاز. ومرت أيام التدريب بطيئة ومملة لأن كلها مراقبة، ووقوف سلبي على قدمي الاثنتين لساعات طويلة وأمام ناظري صحافيين وتقنيين يعملون من دون أية التفاتة لهذا الغر الجديد والمتدرب، وحاولت الاستفادة من الاستوديو بتمرين صوتي، وتمكنت بصعوبة شديدة من إنجاز تسجيلات أحاول خلالها تدريب صوتي، وتصحيح أخطائي، وتطوير أسلوبي، في غياب لأي تأطير أو توجيه، بل إن صحافيين حاربوا تواجدي ظنا منهم أني أسعى وراء منصب شغل، وعلى رأسهم أحد خريجي المعهد السابقين وصحافي في الإذااعة من الذين يؤمنون أنهم من النجوم الكبار ومن النقابيين البارزين مغربيا.
وفي العام الثاني والثالث من الدراسة، كان التدريب في القناة الثانية للتلفزيون الحكومي المغربي، في عين السبع، في مدينة الدارالبيضاء، وخلال التدريبين، أنجزت ثلاثين تقريرا، باستعمال الصور الواردة في وكالات الأنباء، وكنت أطلب من صحافيين أو صحافيات مشاهدة التقرير للمتدرب، قصد الحصول على ملاحظات، إلا أن لا أحد كان يأخذ المتدرب على محمل الجد، خاصة في غياب أية متابعة أو مرافقة، أو مخطط عمل يقارب الأكاديمي في التكوين مع المهني في الممارسة، فإدارة المعهد كان نصفها يعد آخر الترتيبات قبل الرحيل عن معهد الصحافة الحكومي صوب معهد خاص في مدينة الدارالبيضاء. وعلمتني شهور التدريب الصيفي أن خريج معهد الصحافة في الرباط غير مقبول في المؤسسات الصحافية الحكومية للتلفزيون ولا للإذاعة، إلا أني كنت أتعامل مع التدريب بكل جدية.
وكانت الملاحظة لما يقوم به الآخرون سلاحا تعليميا لمعرفة أسرار الصحافي العامل في التلفزيون، بالرغم من بعض العبارات السيئة التي تلقيتها والتي تدعو لعدم ترك المجال للمتدربين، وماذا تفعلون هنا؟ نحن في غرفة أخبار مهنية ولا مكان فيها للمتدربين؟ وكنت أتحمل كل الإهانات والهمهمات الصامتة والمعلنة، نهارا جهارا، لأن كلي رغبة في التعلم، وكنت أستعمل أيضا سلاح الاختراق للصحافيين وللتقنيين، فليس لي ما أخسره، إما آخذ المعلومة والتوجيه أو أعود خائبا، وساعدتني التقنية في تعلم الكثير، وتدريب الصوت، وتعلم المونطاج، والدربة على إنجاز تقرير تلفزيوني يوميا من دقيقتين اثنتين كما يفعل فيلق الصحافيين العامل في نشرات القناة، وشربت من نظرات الاحتقار حتى الثمالة.
وفي السنة الرابعة من الدراسة، كانت مدة ثلاثة أشهر، لتدريب التخرج من المعهد، في الإذاعة المغربية في الرباط، بعد لجوء الإدارة إلى القرعة في اختيار الطلبة الذين سيتوجهون للقناة الثانية ولمحطة ميدي 1، والكل يأمل أن يكون المحظوظ للتمكن من الحصول على قنطرة للممارسة المهنية وللحصول على أول بوابة للعمل المهني ولأول راتب في العمر من مهنة الصحافة، ولم يبتسم الحظ لي، فكان مآلي الرباط، والإذاعة المغربية، وبكل صراحة، احتقرت الأمر واعتبرت نفسي فاشلا في الوصول لما أمني النفس به، وعبرت عن رفضي للعبة الحظ عبر القرعة لأنها غير ديمقراطية، في تتويج مجهود 4 سنوات من التعب والكد في مواد يسميها الطلبة بالتخصصية في مجال الصحافة،
وعقب مرور شهر واحد في الإذاعة، أصبحت أقدم المواجيز الإخبارية في الإذاعة المغربية، وأقدم آخر نشرة إخبارية ليلا، وكان الإنجاز حقيقة على الأثير، إلا أن التجربة سرعان ما ستنتهي بسبب انقضاء أشهر التدريب، وغياب أية استراتيجية لإلحاق الصحافيين الشباب خريجي المعهد، بغرفة الأخبار كصحافيين من المبتدئين مهنيا، ينالون جزاء عملهم راتبا في ختام كل شهر، ولكنها تجربة إيجابية وجميلة، رودت خلالها صوتي وطوعت الميكروفون، وربحت محبين لطريقتي في التقديم، وحانقين يقولون لي إني أقلد صحافيين مشارقة، من الكهول الذين وضعوا لي قشور الموز في طريقي، مع الشكر الجزيل لهم، لأني دست على قشور الموز مرارا، وسقطت دوما على رأسي، وكان السقوط موجعا جدا إلا أنه لم يقتلني، ولكن إيماني كان بأني أمارس ما تعلمته وما أراه جيدا في بحثي عن أول الطريق للمهنية.
فشكرا لكل الذين ساعدوني في الإذاعة المغربية، واعترفوا بقدرتي على أن أكون صحافيا مهنيا، وشكرا لكل الذين مسحوا تقاريري الصوتية على الحاسوب، ولكل من قدم لي أخبارا مطبوعة على الحاسوب ببنط صغير جدا غير مقروء، وأنوه بصديق يعرفني وأعرفه، ولو أني لن أذكر اسمه، فتح لي استوديو الإذاعة، وهو من الخريجين الأولين من المعهد، ويتولى اليوم مسؤلية عالية المقام في 1 زنقة البريهي في حي حسان في الرباط حيث مير الإذاعة الحكومية المغربية، وشكر للصحافيات وللصحافيين في الإذاعة الذين رافقوني بإيمان، ولا زلت ألتقيهم بابتسامة عريضة جدا، أما أصحاب قشور الموز فأعرض عنهم وجهي، لأنهم كائنات صغيرة جدا.
فالتدريب الصيفي في المعهد العالي للإعلام والاتصال، محنة حقيقية وفق إجماع كل الخريجين القدامى والجدد، لغياب اتفاقيات واضحة المعالم للتأطير خلال التداريب، والإحساس بالصدمة الكبرى خلال تلمس أول الخطوات للتعامل مع المعدات التقنية والفنية التي لا علاقة لها بما يتواجد في المعهد، ما يتطلب مضاعفة المجهود للتأقلم، وكأننا القادمون من قرية نائية لا تكنولوجيات فيها، ولكن تبقى حقيقة فشل إدارة المعهد في تدبير ملف التداريب خلال دراستي، خاصة خلال سنوات الدراسة الثلاثة الأولى، حقيقة لا يمكن بتاتا حجبها بأية قطعة قماش من أي لون أو بأي غربال بالي.
ولم تمكن تداريب السنوات الأربعة، في مسيرتي الأكاديمية، من الحصول على نافذة للوصل مع المهنة، بالحصول على عمل، في بلاط صاحبة الجلالة، فظلت في خاطري غصة عميقة، إلا أنها من الماضي كلما نظرت لها من المستقبل، ولكم كانت الحرقة تزداد لما تمكن كل زملاء الدراسة من الحصول على عمل، إلا أنا بقيت عاطلا عن العمل، ولكنها الأيام تعلم وتوجع قبل أن تنير أول الطريق الصحيح، وتلك عبر من تدبير الأقدار فيها إخراج من حكمة التدبير.
والتداريب الصيفية شكلت مزرعة حقيقية للأحلام المستقبلية، ولعمري كنت أحلم خلال ساعات النهار، وهي أحلام بمذاق خاص، تنتمي للشباب الأول من العمر، وللاندفاع البرئ، وللنية الحسنة، وللحسابات البسيطة الخالية من التعقيدات الحياتية، إلا أن في تلك الأحلام أشباح سوداء الجلدة كانت تصر على أن تحول المشهد لكوابيس للألم لشباب لا ذنب لهم إلا أن استحقوا الدراسة في المعهد الحكومي المتخصص في التكوين الصحافي، ولكن غياب إدارة للمعهد قادرة على عبور بحر الظلمات المهنية برؤية، كان يجعل من سنوات الدراسة حبلى بمفاجآت منها ما هو سيء المذاق والسياق، فيصبح الطالب الصحافي هو المساق صوب المرارة.
فمرة أخرى كل الشكر الجزيل لكل الذين مارسوا الضربات تحت الحزام ضدي من المهنيين ومن المهنيات، مع ابتسامة عريضة صفراء اللون فاقع لونها، فانتمائي لجيلي من الطالبات والطلبة الصحافيين وسام على الصدر المثقل بنوبات السعال المهني نتيجة توالي ضربات البرد بسبب تيارات الهواء الاصطناعية من قبل من يملؤون غرف الأخبار في المؤسسات الصحافية إلا أن انتماءهم للمهنة عار فقط أكثر من أي شيء آخر.