عندما أمضيت ما يسمى بشهر التوبة والغفران، لأول مرة في حياتي، بعيدا عن العائلة، في الحي الجامعي الملحق للمدرسة التعدينية في الرباط، أحسست بمرارة شديدة، بعيدا عن مائدة الوالدين وعن دفئ العائلة، واضطراري للمحافظة على الأساسيات فقط لعملية الإفطار الرمضاني، في غياب حتى للتمر الذي أعتبره أساسيا في رمضان، فالميزانية الشهرية لا تكفي للتوفر على بذخ لا يزال ممنوعا على الطلبة بالرغم من كل المتغيرات التي عرفها المجتمع المغربي. وفي أول يوم للإفطار في رمضان في زمن الدراسة الجامعية، مرت اللحظات مريرة، فكان الإفطار كأسا من الحليب وقطعا من الخبز مع الجبنة المعلبة، وكأسا من القهوة، قبل الخروج لشم الهواء خارج الغرفة وبعيدا عن الوحدة في الإقامة الجامعية لملحقة مدرسة التعدين في الرباط، ويكون التمشي في حي أكدال وحيدا، والناس لا تزال تفطر قبالة شاشة التلفزيون وفق العادات المتماشى عليها، لأسير على طول شارع فال ولد عمير، في سنة 2000، والذي كان لا يزال شارعا ثانويا في الرباط، وبعدرفع آذان المغرب، كان يكون مقفرا من المارة، أول رمضان في الحياة الجامعية كان تمرينا لقياس مدى استيعاب التحول في الحياة الإنسانية من تلميذ يتدفأ كل مساء في بيت الوالدين إلى طالب يبحث عن أجنحة للتحليق بعيدا.
وفي العام الثاني، من الدراسة الجامعة، بانتقالي للحي الجامعي السويسي رقم اثنان، استمر نفس الحال، وإن بمرارة أقل، لغياب أية أنشطة رمضانية من قبل إدارة الحي الجامعي السويسي رقم 2، ولغياب تام لما تسمى بعمليات الإفطار الجماعية التي تدفئ الروح رمضانيا، ولغياب أية استراتيجية تنشيطية رمضانية تجعل من صيام الطلبة جماعة أمرا ممكنا، فرمضان مناسبة للفردانية في الإفطار في تمثل لسلوك اجتماعي يترسخ في ما يمكن وصفها تجاوزا بالمدينة الجامعية الأولى في المغرب، فكل طالب يقفل على نفسه سجنا إراديا اسمه الغرفة، لتنتشر عدوى الوحدانية، وفي مساءات رمضان مارست طويلا جولة من المشي على الأقدام في شارع العرفان المسمى علال الفاسي، وصولا إلى المركب التجاري الجامعي، لسلخ ليل رمضان في طواف ما بين نقطتين هما الحي الجامعي والمركب التجاري الغالي في أسعاره في العرفان.
ومن السنن الجميلة في الرباط، التي سهلت رمضان الحياة الجامعية، استضافات جميلة من خال لي يسكن الرباط، وفي رمضان الثالث، كان المستشفى مكان رمضان، بسبب وعكة صحية ألمت بي، وأغلقت علي زرقة السماء، وكحلت الأفق في ناظري، ونشرت الخيبة في روحي، إلا أن لكل اختبار جانبه الإيجابي، فالساعات الطويلة في المستشفى، كشفت لي جوانب من حياتي كنت الجاهل لها، وخضت الفحوصات الطبية المطلوبة بكثير استرخاء، بالرغم من افتقادي لأجواء الدراسة الرمضانية نهارا، وافتقاد أصدقاء رافقوني خلال رمضان في ساعات السمر.
وخلال السنة الأولى من الدراسة في المعهد، مر شهر رمضان، تقريبا دون دراسة، بسبب تصويت الطلبة في جمع عام على الإضراب العام عن الدراسة، إلى غاية الاستجابة لمطالب تحسين المناهج الدراسية، ومساعدة اجتماعية للطلبة للخروج من الواقع الاجتماعي السلبي، ومشكل السكن للطلبة الجدد الوافدين على المعهد في الرباط من مدن مغربية أخرى.
ولا تمارس التفكير البناء الاجتماعي أية مؤسسة حكومية تجاه الطلبة المغتربين في الرباط للدراسة من الوافدين من مختلف جهات المملكة، والفعل غير مقبل عليه لا من إدارات المؤسسات التعليمية، لغياب رؤية اجتماعية، ولا إدارة الأحياء الجامعية، التي لا تخرج من الإطار التدبيري التقشفي اليومي، ما عدا الإعانات الاجتماعية والعينية للعائلات، والتي تحاول أن تسد بعض الخصاص، إلا أن حياة رمضان في العرفان رتيبة وتفتقد للتنشيط الخاصة بالشهر الفضيل، باستثناء بعض الأنشطة والندوات الرمضانية من تنظيم جمعيات الطلبة في معاهد ومدارس العرفان العليا والتي تشكل امتدادا لإيديولوجيات جهات حزبية تبحث عم استعراض للعضلات أمام الطلبة، وأكثر ما يكون مفتقدا في رمضان شاشات التلفزيون التي تشكل ركنا أساسيا في رمضان، لمتابعة موسم الإنتاجات الدرامية في العالم العربي.
وتخفف من وطأة رمضان، زيارات نهاية الأسبوع، لبيت العائلة لمن استطاع لذلك سبيلا ماليا من الطلبة، وهو ما لم يمكن بمقدوري القيام به كل نهاية أسبوع، للاستفادة من تعويض ولو بسيط من الناحية الزمنية، عن طول ليالي رمضان في العرفان، وفي معهد الصحافة، حيث تمر النهارات سريعا ما بين الدراسة والبحث عن المراجع، فيما الليل يطول لولا صوت المذياع الصغير الذي يكون المتنفس الوحيد لمعرفة ما يقع في العالم الخارجي، والمؤنس في وحدة رمضان، ليأتي صوت العالم عبر قطعة المدن الصغيرة الملفوفة في بلاستيك خارجي.
وبالرغم من كل الشعارات الجوفاء للحكومات بالاهتمام بالطلبة الجامعيين، إلا أن معانات هذه الشريحة الاجتماعية من غياب مرافق اجتماعية يبقى واضحا، لدى كل الطالبات والطلبة الذين مروا من المدينة الجامعية للعاصمة الرباط، التي من المفترض في كتب التنظير أن تكون مختبرا لما يمكن أن يكون نموذجا في باقي المدن الجامعية المغربية الأخرى، إلا أن واقع المعيش اليومي للطلبة الجامعيين المضطرين للمعانات طيلة السنوات الدراسية الجامعية ولما يسرد الطالب معاناته يجيبون الآخرون هي ضرورة عمرية وكأنه التلقيح الاجتماعي الإضطراري الذي لا مفر منه، وكأن القدر يقتضي أن معاناة الأجيال القديمة يجب أن تستمر مع الأجيال اللاحقة، فالتطور لا يوجد له مكان في البرامج الحكومية الموجهة لمن يفترض فيهم نظريا أنهم رجال المستقبل والمفترض أن يستلموا المسؤوليات لتطوير المجتمع.
تشبه المدينة الجامعية في الرباط خلال شهر رمضان، مكانا غير مرغوب فيه، من قبل الجميع، فخلال ساعات النهار الحركة بطيئة، ومع اقتراب رفع الآذان لا يسجل شارع علال الفاسي إلا حركية قليلة من الطلبة والطالبات من الذين حكمت عليهم الأقدار أن يعيشوا رمضانا من سجن اجتماعي لا يمكن بتاتا أن يحمل اسم المدينة الجامعية التي تنتقل في المغرب من مراتب السمو إلى منازل الدنى.