شخص يتحدث في فيديو مسجل وبمجرد سماعه الخبر عن "مخطط شيطاني للمخزن". خبراء نظرية المؤامرة يعرضون تحاليلهم العميقة بالمجان. بعض شباب 20 فبراير يتلمظون في الفيسبوك ويناقشون ما يختبئ خلف الانفجار، ويقولون إن النار اشتعلت بفعل فاعل لإلهاء الشعب ولصرف نظر المواطنين عن مطالبهم وللالتفاف عليها. آخرون أكثر قدرة على الإبداع والخلق يشيرون بالأصبع إلى جهات بعينها، وأنها هي من دبرت الحادث الإرهابي لإيقاف عجلة الإصلاحات. وأقوياء النظر دققوا مليا في الصور، ولم يجدوا آثار المسامير في الجدران. يا للموهبة والبصر الثاقب. كل واحد منهم شارلوك هولمز زمانه، ولا حاجة لتحقيقات ولا لمخابرات ولا لشرطة، فالجميع فاسد، والشعب هو الذي يجب أن يتحرى في ما حصل. الأكثر حكمة وروية يعرضون فرضيات تصب كلها في منحى واحد.
إلى هذه النقطة ينضب الخيال ويتعطل. فلا أحد يفترض وجود إرهابيين. الإرهابيون أبرياء بالمطلق وإن نفذوا عملياتهم الإجرامية فهم يقدمون بذلك خدمة مجانية للمخزن. تحيا التحاليل العميقة. الإرهابيون ضحية الفقر والاستبداد، من يتذكر منكم هذه اللازمة. الثورات العربية أثبتت أن بعبع الإرهاب هو صنيعة السلطة المستبدة. تحيا طاقة الإبداع الجبارة. تحيا الجمل الجاهزة. الدولة شريرة دائما، ولو أصيبت في مقتل، فهي تفعل ذلك للتمويه. هكذا يقولون. والذين يدعون حب الملك يقولون إن بطانته المستفيدة لها يد ورغبة في عدم استقرار المغرب. عباقرة في كل مكان، ومن مختلف التوجهات والمشارب.
لكن لا أحد تقريبا مع التريث. مع دقيقة صمت احتراما للضحايا. لا أحد تقريبا يقول إن هناك ضحايا أجانب بالجملة، ولهؤلاء حكوماتهم ومخابراتهم وفرقهم العلمية، التي ستعرف ماذا وقع بالضبط. لا أحد تقريبا في هذه "المعارضة الإعلامية والإلكترونية" مستعد أن يقدم هدية تنديد بما حصل، فالدولة ماكرة ولا يمكن بالمرة مكافأتها، ولو بإدانة عملية إرهابية تستهدف الجميع.
كل شيء خيال في خيال القاعدة غير موجودة. السلفيون الجهاديون أبرياء كلهم وضحايا لنظام قمعي. أسامة بن لادن صنيعة الغرب وأذياله العرب، والمغرب طبعا من بينهم. اغتيال عمر بن جلون فعل مدبر ألصق بالجماعة الإسلامية. صدام حسين لم يمت وهو يخاطبنا الآن في اليوتوب. الإرهاب غير موجود والموجود هو ما يسمى بالإرهاب فقط . هذه هي الثقافة التي تربى عليها جيل الجزيرة وبعض "الصحافة المستقلة"، وأثراها الإسلاميون والرفضويون، حتى أصبحنا نشك في الدم ونقول إنه ليس هو، وحين يقترب منا الموت نحييه ونتفهم مطالبه التي لا تتحقق إلا بالقتل والاغتيال والتفجيرات. ونقول إن الموت بريء والدولة هي المسؤولة. هذه هي الثقافة السائدة الآن للأسف، وترفع شعار الديمقراطية والحقوق ومحاربة الفساد، لكنها تكرس في نفس الوقت التعميم والجهل وغياب الأفكار وترتبط بالفضاء والافتراض أكثر من ارتباطها بالواقع.
نعم الدولة مسؤولة حين زجت بجحافل من الناس وقالت لنا إنهم متورطون في زعزعة استقرار المغرب، وباستعدادهم للقيام بعمليات إرهابية، وبتخطيطهم لاغتيال شخصيات عمومية، وإدخالهم للسلاح، لكنها وبقدرة قادر برأت الكل، وعفا الله عما سلف، دون تقديم اعتذار لهؤلاء المعتقلين، ودون تقديم تفسير للمغاربة حول ما إذا كان هؤلاء مظلومين حقا، أم أفرج عنهم لضرورات يستلزمها الوضع.
نعم الدولة مسؤولة وعلى الذين دبروا هذا الملف أن يحاسبوا، أو يقدموا الدليل على تورط هؤلاء، كي يثق المغاربة في سلطتهم وقضائهم، وكي لا يشك بعضهم في عملية إرهابية تستلزم الإدانة من الجميع.
الدولة مسؤولة أيضا حين أفرجت عن جيوش من السلفيين ظلوا لسنوات يكفرون الناس ويحرضون على العنف والإرهاب، وقدمتهم لنا كضحايا من تركة الماضي والعهد البائد، وكمعتقلي رأي تستضيفهم الندوات الصحافية ويمنحون التصريحات المستفزة والمناقضة للمغرب الذي نسعى إليه.
هناك سوء نية متبادلة في هذا البلد
سوء نية الدولة التي تشك في كل ما يتحرك وتفعل ما تريد ولا أحد يحاسبها وسوء نية أصحاب نظرية المؤامرة والمشككين في كل ما يحصل، والذين ينتعشون في وضع كهذا، ويتنفسون هواءهم حين يغيب الوضوح ويعم الفساد وتتراكم الأخطاء. وللأسف، هناك عقلاء، ولكنهم أقلية عالقة بين الكماشتين، ولذلك لا يسمع صوتهم، وإن صرخوا، لا أحد ينتبه إليهم، وسط كل هذا الضجيج السائد.
وربما لهذا السبب سنجد دائما من يقول لم يكن جامع الفنا إلا فضاء للتمثيل وأركانة ليست إلا ديكورا والضحايا كومبارس وسيستفحل الخيال الجامح ولن نصدق أي خطوة نقوم بها وستنتعش نظريات المؤامرة أكثر وسيشكك "المعارضون الجدد" في كل شيء يقع في هذه الأرض إلى أن يثبت العكس.