اشتهر الموساد بعملياته الاستخباراتية عبر العالم، خاصة ضد العرب والناشطين الفلسطينيين، إلى حد أن البعض جعل منه أسطورة الجهاز الذي لا يُقهر، والحال أن العمليات التي يقوم بها الجهاز بدعوى «مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين» تشكل في الحقيقة نوعا من الإرهاب الدولي المكشوف. آخر فضيحة في هذا الاتجاه هي فضيحة انكشاف جريمة اغتيال القيادي في حماس، محمود المبحوح، بدبي، على يد كومندو من الموساد، وقبلها كانت عمليات استهدفت أبو جهاد، ومقاتلي «أيلول الأسود» والنازيين الفارين إلى أمريكا الجنوبية، والمفاعل النووي العراقي واختطاف طائرة حربية عراقية... الحلقات التي ننشرها عن عمليات الموساد في هذا الركن، ليست تمجيدا للجهاز ولا تزكية لعملياته الإرهابية بقدر ما هي استجلاء لعالم الاستخبارات الغريب، الذي تغيب فيه الأخلاق وتتقوى فيه المصالح. الحلقات مقتبسة من كتاب «التاريخ السري للموساد- من 1951 إلى اليوم-» لمؤلفه غوردن توماس. إلا أن توماس لم يكن محايدا في تحريره ل «تاريخ» الموساد، بل يشعر القارئ بأنه يميل إلى تبني الأطروحة الإسرائيلية حول «الفلسطينيين أو العرب الإرهابيين» لأن الكثير من التفاصيل استقاها من مصادر إسرائيلية ومن أشخاص تلوثت أيديهم بدم من اغتالهم الموساد ذات زمن. لم يكن من السهل استدراج المسؤول الأول عن القوة 17، عبد الرحيم مصطفى. فقد كان متمرسا، خبيرا بأمور التجسس والعمليات السرية. لذلك، لم يحاول إسماعيل صوان أن يقوم بأي محاولة في هذا الاتجاه. في خلال ذلك، بدأت زوجة صوان (التي لا تعرف حقيقة زوجها كعميل مزدوج) تحثه على القبول بمنصب باحث في الكوليج الجامعي أومبرسايد بمدينة هال. وشيئا فشيئا بدأ يقتنع بأنها فرصة سانحة لتحسين دخله والإفلات من الطلبات المتزايدة لعميل الاتصال. وضعه الآن، الذي لم يعد فيه مجرد مخبر عادي للموساد، أصبح يؤثر عليه بشكل كبير من حيث أنه يعرضه للكثير من الأخطار. بعد انتقاله إلى مدينة هال، بدأ إسماعيل صوان يشعر بشيء من الارتياح لأنه ابتعد عن ضغط العميل بشار، الذي أصبحت لهجته تزداد حدة، بينما كان صوان يتذرع بمختلف التبريرات حتى يتفادى الخضوع لطلباته. لكنه، كان يجهل أن الموساد يحضر له مشاريع مختلفة جدا عما قد يخطر بباله. مساء يوم 22 يوليوز 1987، وبينما كان إسماعيل صوان يشاهد التلفزيون في شقته بمدينة هال، فوجئ بصورة ناجي العلي تظهر على قناة بي بي سي وخبر اغتياله بينما كان يغادر مقر صحيفة القبس في لندن. القاتل أطلق رصاصة واحدة على رسام الكاريكاتور واخترقت وجنته لتستقر بدماغه. للوهلة الأولى، اعتقد صوان أن الاغتيال ليس من صنيع الموساد ولا من صنيع القوة 17 الفلسطينية اعتبارا لأن المنظمتين تنفذان عمليتاهما بشكل احترافي عال يتجلى في إطلاق رصاصات كثيرة في الرأس، وليست واحدة. اعتبر، إذن، أن الاغتيال من فعل قاتل هاو، إلا أنه لم يستبعد أن تكون العملية بطلب من ياسر عرفات وتساءل إذا ما كان الوحيد الذي أسر له عبد الرحيم مصطفى برغبته في التخلص من ناجي العلي. على إثر ذلك، اعتبر أنه من الأفضل له ولزوجته أن يغادر لندن نحو تل أبيب تفاديا لأي مشكل. وبينما كانا يهمان بمغادرة البيت، دق على الباب شخص قال عنه صوان: «كان شخصا يحمل حقيبتين. قال لي إن مصطفى يريدني أن أخبئهما في بيتي. وعندما سألته عن محتوى الحقيبتين، اكتفى بالابتسام وطمأنني بأن القضية ليس فيها ما يقلق. وبعد أن غادر البيت، فتشت الحقيبتين، اللتين كانتا مملوءتين بالأسلحة والمتفجرات. كان فيها ما يكفي من مادة ال«سيمتيكس» المتفجرة لتفجير برج لندن، ورشاش AK-47 ومسدسات وصواعق...». اتصل إسماعيل بالرقم الاستعجالي التابع للموساد، فوجده خارج الخدمة. اتصل بالسفارة الإسرائيلية للحديث إلى العميل أرييه ريكيف أو يعقوب باراد، فقيل له لا يمكن الاتصال بهما، فطلب الحديث إلى بشار سمارة. لكن بدون نتيجة. إلا أن شخصا مجهولا قال له على الهاتف:- حان الوقت لأخذ قسط من العطلة تحت الشمس. وهو ما يعني أن عليه أن يغادر لندن نحو إسرائيل. وعند وصوله إلى تل أبيب، التقى جاكوب باراد وبشار سمارة بفندق شيراتون، اللذين أمراه بالتريث إلى حين الاتصال بالمسؤولين. في المساء، عاد سمارة وحده ليلتقي بصوان ويأمره بالعودة حالا إلى لندن وأنه سيحل المشكل بينما هو في طريق العودة. لم يتردد إسماعيل في السفر. كان ذلك في 4 غشت 1987، ليعتقل عند وصوله من قبل عناصر من المصلحة الخاصة بسكوتلانديارد بمطار هيثروو ويتهم باغتيال ناجي العلي. وعندما دافع عن نفسه بالقول إنه يعمل لصالح الموساد لم يلق إلا السخرية من عملاء الجهاز الأمني البريطاني. أدرك إسماعيل صوان في الأخير أنه كان ضحية عملية ضُحي به فيها من قبل الموساد ليخطب هذا الأخير ود حكومة تاتشر. أما الأسلحة التي وجدتها الشرطة في بيته فكانت دليلا دامغا على «تورطه» في الاغتيال، والشخص الذي استودعها عنده لم يكن إلا عميلا إسرائيليا من صنف السايان. في أثناء ذلك، قدم أرييه ريغيف للسلطات البريطانية مجموعة من الأدلة التي جمعها الموساد من أجل إثبات علاقة إسماعيل صوان بما قال إنه «إرهاب فلسطيني». صحيح أن الموساد صرف الكثير من المال والوقت على تدريب صوان وتمويله، إلا أن الجهاز فضل التضحية بعميله المزدوج من أجل محو آثاره في بريطانيا والتأكيد للبريطانيين حسن نية الدولة العبرية تجاه البريطانيين. فالأسلحة التي وُجدت في بيت صوان كانت فرصة لم يقو الموساد على تفويتها من أجل الإضرار بالعلاقة بين منظمة التحرير وبريطانيا وتقديم ياسر عرفات في هيأة رجل يلعب لعبة مزدوجة. أما إسماعيل صوان، فأمثاله موجودون بكثرة في نظر الموساد. عائلة إسماعيل صوان من العائلات القديمة التي استقرت بإحدى قرى الضفة منذ العام 1930. وتزامن استقرارها مع كراهية الشعب الفلسطيني تجاه المعمر البريطاني واليهود. في خلال ذلك، كان العنف سائدا بين كل الأطراف. فالعنف يولد العنف والمجازر تولد المجازر. والد إسماعيل، الذي كان ينتمي لحزب فلسطين العربية، كان واحدا من الذين قادوا المظاهرات وأذكوا الحماس الوطني بين السكان الفلسطينيين. في مرحلة أولى كان نضاله الوطني يستهدف البريطانيين، لكن بعد أن انسحب هؤلاء من فلسطين، سنة 1948، أصبحت الدولة العبرية الجديدة هدفا لنضاله، فكان طبيعيا أن تكون الكلمات الأولى التي تعلمها إسماعيل في طفولته هي تلك التي تحظ على كراهية اليهود. فطيلة سنوات طفولته، ظل الطفل يسمع في أذنيه كلمة «الظلم» سواء في المدرسة أو في الأحاديث التي كانت تدور على مائدة الأكل. الظلم الذي يمارس على شعبه وأسرته وشخصه، أيضا. لكن حادثة الهجوم على حافلة اليهود التي كان شاهدا عليها هي التي غيرت أفكاره. فالقتلى الأبرياء، الذي رآهم يتساقطون أمامه بينما كان عمره لا يتجاوز 15 سنة، غيروا قناعته من الحقد على اليهود إلى التطلع نحو مستقبل ينمحي فيه العنف ويسود السلام داخل وطن يجمع دولتين.