أسكن في مدينة سلا. مثل كثيرين أسكن في هذه المدينة. وقد وهب الله سلا بحرا، وأنا أسكن على بعد خطوات من هذا البحر. لكن لا أحد يرى بحر سلا.
يوجد بحر سلا تحت المدينة، ولا يمكن أبدا رؤيته بالعين المجردة، ولكي تراه عليك أن تقترب منه، وحينما تفعل ذلك تشعر بالخوف وتتراجع. عليك أن تقف على شفير جرف لتراه، وهو فعلا موجود، لكنه تحت الجرف. أزرق ومالح وشاسع وغاضب ومزمجر لكنه لا يصلح للسباحة. ولا يمكن أن تقضي فيه عطلة الصيف ولا أن تأخذ أولادك ليسبحوا فيه حتى الرمل نادر في بحر سلا
أما إذا كنت تفكر في الانتحار فهو مكان مناسب للقيام بذلك، ويكفي أن تقف على جرفه، وتدفع نفسك وها أنت ميت في الحين، لكن رجاء لا تفعل ذلك، فالموت بدوره لا بحر فيه ولا ماء ولا أي متعة تذكر.
للسلاويين في بحرهم مآرب أخرى غير السباحة وقضاء عطلة الصيف، فهم يستغلونه في أمور العشق، لأن الجرف يوفر لهم خلوات طبيعية بعيدا عن أعين الفضوليين، مع توفير أمواجه وصوتها نوعا من الرومانسية والموسيقى التصويرية، التي تجعل القبل والحب والعناق والهصر لذيذين.
كما يعوض أهل سلا غياب الحانات عن مدينتهم بتحويل بحرهم إلى بار مفتوح على السماء، صف طويل كل يوم من السيارات، كل واحدة منها عبارة عن حانة متنقلة بعجلات، فيها قناني بيرة ونبيذ وبارمان وقطعة وبنات، وأولاد يجمعون القناني الفارغة، ليبيعوها بعد ذلك.
في شواطىء كل الدنيا أصداف وقواقع وأحجار صغيرة وأشنات وطحالب خضراء وبنية، وفي شاطىء سلا المختبىء تحت جرف عال كانيتات سبيسيال وزجاجات ستورك التي تشبه امرأة بدينة وشظايا زجاج وقناني نبيذ فارغة. وهناك من يصطاد من بحر سلا سمكا يبيعه في السوق وهناك أولاد شجعان ومتهورون ومغامرون ، يسبحون فيه، تراهم راجعون منه أو ذاهبون إليه، وأنت مندهش منهم، تتساءل كيف تمكنوا من القيام بذلك. ينسى السلاويون أنهم يقطنون مدينة شاطئية، ولا يخبرون زوارهم بأن بحرا في المدينة، وحين يحل الصيف، يبحثون عن مدينة يصطافون فيها. كأنهم يخجلون منه، ويرفضون الاعتراف به يغطونه بالجرف كي لا يرى الغريب بحرهم وحين يهرب المراكشيون من الصهد إلى الصويرة والجديدة وحين يهرب الفاسيون إلى الشمال وحين يفر الوجديون إلى السعيدية
يهرب السلاويون معهم إلى أي مكان، ويفر من استطاع ذلك، ومن عجز يبقى محاصرا في سلا، ولا يفكر أبدا في الذهاب إلى شاطىء مدينته. كأن لعنة أصابت هذه المدينة، ولا أحد من السكان يريد أن يعترف بذلك ويفشي السر. فليس من العدل في شيء أن تتآمر الطبيعة هي الأخرى على هذه البقعة من أرض المغرب، وتمنحهم بحرا غاضبا وحزينا ومزمجرا، يرفض أن يرتموا فيه ويطفئوا نار أجسادهم المشتعلة بالحر.
كل شيء في سلا غريب، كأن مصيبة حلت بها في الماضي، وكأنها ارتكبت معصية، ومازالت لحد الساعة تتحمل عواقبها.
وليس ما يحصل في هذه المدينة طبيعيا، وليس منظرها عاديا، وبغض النظر عن البحر، فلا يمكنك أن تقبل أن كائنات سوية هي التي بنت مساكن هذه المدينة، وتسأل أين كانت الدولة حين نبتت كل تلك الأحياء والعمارات البشعة، والتي لن يخرج من أبوابها إلا الشر والفظاعات.
في فصل الصيف، يملأ أهل سلا القطارات القطارات والحافلات والتاكسيات في اتجاه شاطىء تمارة أو الصخيرات، ثم يعودون إليها في المساء.
الكل يتركها ويعود إليها.
يتركها العمال والموظفون ويتركها اللصوص والنشالون لكنهم يعودون في المساء ولا أحد بالمرة يطمئن لمدينته، يأتي إليها لينام، ثم يهرب.
وحتى وهو مضطر ولا يستطيع مغادرتها، يجهد نفسه ويختلق ما يلهي به نفسه، كي يظن أنه في مكان آخر.
وينسى بحرها ويذهب تفكيره إلى بحر آخر. تشبه مدينة سلا قطاع غزة فيها معبر عبارة عن جسر يمتلىء كل صباح ومساء بالنازحين وفيها حصار وبحر من يسبح فيه يموت وفيها أكبر كثافة سكانية تماما مثل غزة وتشوه عمراني وسلفيون وإسلاميون وفقر متفش ووجوه مكفهرة ومثل غزة يطالب أهل سلا بفك الحصار وبفتح معبر أبي رقراق وميناء وبحر لا يموتون فيه ومثل غزة تعاني سلا من ظلم الجميع وصمت القوى العظمى ومن اللصوص وقطاع الطرق وانعدام الأمن وغياب المرافق الحيوية ومن الدمار والقصف محاصرون ولا أحد يتضامن معنا الشعب المغربي وين وين وين وين الملايين أينكم يا حكام المغرب أين النخوة المغربية أين الكرامة أين العزة والشهامة فكوا الحصار وافتحوا المعابر فلا متنفس لنا في هذه المدينة البحر مغلق والحانات مغلفة والليل ممنوع والصباح ممنوع والتسكع ممنوع ونضطر إلى الهجرة والعبور من أجل العمل وطلب الرزق والحافلات محفوفة بالمخاطر وحظر التجول يبدأ في ساعات المساء الأولى والصيف حار هذه السنة ولا ماء نطرطشه على أجسادنا ولا بحر في الأفق لا بحر في سلا ولا عطلة.