هل تعتبرون القرار الملكي بتغيير الإطار التشريعي للهيأة توسيعا لصلاحياتها إرادة فعلية لمحاربة الفساد أم مجرد تهدئة للشارع؟ إعادة النظر في الإطار التشريعي المنظم للهيئة مدخل مهم لتعزيز عملها واستجابة كلية لما طالبنا به في هذا الصدد. بالنسبة لي لا يقل هذا القرار أهمية عن الإعلان عن المراجعة الدستورية الشاملة. إنه يفتح الباب أمام مرحلة جديدة في عمل الهيئة تكون فيها قادرة على مكافحة الفساد وليس فقط الوقاية منه، وقادرة أيضا على التحري والإحالة على القضاء بدل الاكتفاء بإبداء الرأي الاستشاري كما ينص على ذلك القانون الحالي المنظم لعمل الهيئة. ولعل من المؤشرات الدالة على أن الأمر يتعلق بإرادة فعلية هو أن الأمانة العامة للحكومة اتصلت بنا مباشرة بعد الإعلان عن الاستقبال الملكي وتغيير الإطار التشريعي المنظم للهيئة، للشروع في وضع الأرضية القانونية الجديدة.
ما هي الصلاحيات الجديدة التي سيمنحها لكم القانون الجديد المرتقب؟
صلاحيات البحث والتحري، والولوج إلى المعلومات مع كامل الإمكانيات القانونية لدفع المؤسسات والإدارات العمومية للإدلاء بحصيلة أنشطتها. إضافة إلى تمكيننا من الوسائل البشرية والمادية للقيام بعملنا، ذلك أننا لا نتوفر اليوم سوى على 15 إطارا، إلى جانب أعضاء الجمع العام للهيئة.
ما هي المعيقات القانونية لعمل الهيئة في القانون الحالي؟
تبين من خلال التحليل القانوني لمرسوم 13 مارس المحدث للهيئة أن الإكراهات المطروحة تُعزى في مجملها إلى : - غموض التوصيف القانوني للهيئة الذي لا يوفر لها مقومات الشخصية المعنوية والاستقلال المالي، ويحد بشكل ملحوظ من استقلاليتها على مستوى التدبير الإداري والمالي ، - عدم توضيح وتدقيق المهام الأفقية من تنسيق وإشراف وتتبع وتقييم، دون تحديد الإجراءات العملية لتفعيلها، الشيء الذي يفتح الباب لتنازع الاختصاصات مع السلطات الإدارية أو القضائية. أما على مستوى الممارسة، فهناك أيضا عدة صعوبات اعترضت عمل الهيئة، خصوصا على مستوى : 1- الحصول على الوثائق والمعلومات اللازمة، نتيجة طغيان السر المهني وانعدام تشريع عام يضمن الولوج إلى المعلومات، 2- الاضطلاع بمهام تتبع التنفيذ والتنسيق والتعاون التي بقيت رهينة بالانخراط الفعلي لمختلف الإدارات والهيئات في نهج المقاربة القطاعية والتشاركية الضرورية في مجال الوقاية من الفساد ومكافحته، 3- النهوض بتفعيل الدور الاستشاري والاقتراحي نتيجة غياب آليات الإلزام وضعف موقع الهيئة في مسار تنفيذ المشاريع والتوصيات، 4- التبليغ عن الفساد الذي بقي محدودا بالنظر لضآلة عدد الشكايات المتلقاة الناتجة على الخصوص عن الإحجام النسبي عن التبليغ على خلفية صعوبة الإثبات وغياب الحماية القانونية، 5- الحصول على الوسائل المادية الكافية للاستجابة للمهام المنوطة بالهيئة والتمكن من توظيف الكفاءات النوعية اللازمة، 6- التأثير على دينامية إطلاق المتابعات في حق مرتكبي أفعال الفساد، بما من شأنه أن يدفع بسلطات إنفاذ القانون إلى اعتبار توصيات ومقترحات الهيئة مدخلات أساسية تنبني عليها عمليات التحري والمتابعة والمحاكمة وإنزال العقاب. وبالنسبة لمعيقات محاربة الفساد بشكل عام، فقد حددتها الهيئة في تقريرها السنوي وطرحت بشأنها مقترحات وإجراءات عملية، ويمكنني أن أجملها في صعوبة تطويق الفساد ومحاصرة المفسدين بفعل عامل التكتم وطغيان السر المهني وغياب قضاء متخصص وعدم فعالية نظام العقوبات، إضافة إلى محدودية دور المساءلة وإعطاء الحساب، ثم تفشي ظاهرة الإفلات من المتابعة والعقاب، وكذا ضعف فعالية النظام القضائي، فضلا عن هشاشة آليات انخراط المواطنين في التبليغ عن الفساد، وأخيرا غياب البعد الاستراتيجي لسياسة المكافحة.
لماذا يغيب صوتها عن قضايا الفساد التي تثار على صفحات الجرائد في الفترة الأخيرة؟
من المهم الإشارة في البداية إلى أن الهيئة المركزية تواكب عن كثب جميع تفاعلات الفساد المطروحة في المجتمع، وذلك من منطلق صلاحياتها كمرصد موضوعي لملامسة قضايا الفساد وجمع المعطيات المتعلقة به. والهيئة تعتبر أن اتخاذ موقف مؤسساتي فاعل إزاء قضايا الفساد المتداولة في الصحف ينبغي أن يُتَرجَم عمليا بقدرتها على تحريك البحث والتحقيق في هذه القضايا لإطلاق المتابعة أو للتبرئة، وهي صلاحية لا تسمح بها وضعيتها القانونية الحالية التي تظل في مجملها وضعية وقائية، علما بأن النيابة العامة ووزير العدل هما المؤهلان قانونا لتحريك المسطرة المذكورة بناء على ما يصل إلى علمهما من قضايا قد تشتمل على أفعال يعاقب عليها القانون. يضاف إلى ذلك، أن التبليغ عن الفساد المخول للهيئة المركزية بناء على الشكايات التي تتوصل بها جاء هو الآخر مقيدا بمجموعة من الضوابط حددها الدليل المشترك بين الهيئة ووزارة العدل في هذا الشأن.
لماذا غاب صوت الهيئة عندما تعرضت منظمة ترانسبرانسي للمنع من تنظيم حفل تكريم عبد الرحيم برادة وشكيب الخياري؟
اتخاذ القرار داخل الهيئة يتم بالرجوع إلى أجهزتها التقريرية وعلى رأسها الجمع العام واللجنة التنفيذية. وقد قرر أعضاء اللجنة التنفيذية، ومن بينهم منتمون إلى الجمعية المذكورة، إحالة قضية ترانسبارانسي على الجمع العام قصد اتخاذ القرار المناسب بشأنها. وبالفعل، فقد ندد أعضاء الجمع العام خلال اجتماع 24 فبراير الأخير بمنع الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة من ممارسة نشاطها، وأصدروا بيانا يتضمن هذا التنديد.
ما تقييمك للحكم الصادر في قضية الفراع والذي لا يتضمن استرجاع الأموال المنهوبة من التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية؟
لا شك أن الاتفاقية الأممية لمحاربة الفساد تنص على استرجاع الأموال المنهوبة، لكن يجب الاطلاع على التفاصيل القانونية الدقيقة لهذا الملف قبل إصدار أي تقييم للحكم القضائي المتعلق به.
ماذا عن إصلاح مدونة الانتخابات لتضييق إمكانيات الرشوة وشراء الأصوات؟
حاولنا جمع الأحزاب السياسية قبل الانتخابات الجماعية الأخيرة لإعداد ميثاق شرف للنزاهة والشفافية لكننا لم نفلح في ذلك، ولم نتمكن من الحصول على تجاوب كل الأحزاب مع مقترحاتنا ومع ما ورد في دراسة أنجزتها منظمة ترانسبرانسي المغرب حول هذا الموضوع. ولقد ضمنا تقرير 2009 مقترحاتٍ لوضع حد للريع السياسي، وسنتخذ مبادرة بهذا الصدد في أفق الاستحقاقات المقبلة.
ما رأي الهيئة في نظام الامتيازات في منح رخص استغلال الثروات وبعض الخدمات العمومية ومحاربة التملص الضريبي. رصدت الهيئة المركزية مجموعة من الثغرات العميقة التي تسمح بتحقيق امتيازات مادية أو معنوية، شخصية أو مرفقية، تؤثر بشكل عام على مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص وحياد القرارات، حيث قدمت بشأنها عدة مقترحات وتوصيات. وتهم هذه الثغرات بشكل عام الجمع بين ممارسة السلطة والأنشطة الاقتصادية، وكذا الجمع بين عدة مهام ومسؤوليات، إضافة إلى الاستثناء الذي يبقي الدولة خارج نطاق مقتضيات المنافسة في إطار التدبير المفوض، فضلا عن نواقص نظام الصفقات العمومية. ورغم وعيها بالانفلاتات المرتبطة بشروط وقواعد منح تراخيص استغلال الثروات وبعض الخدمات والتملص الضريبي، إلا أن مقتضيات المرسوم الحالي للهيئة ضيقت نطاق الفساد المشمول بتدخل هذه الأخيرة وحَصَرَتْهُ في الرشوة والأفعال المرتبطة بها، مما فوت على الهيئة السند القانوني لاقتحام هذا المجال الحيوي، الأمر الذي سيجعلنا، في أفق المراجعة القانونية المقبلة، معززين بالصلاحيات القانونية التي ستسمح لنا بتحصيل المعلومات الكافية والكفيلة بالتشخيص والتقييم الموضوعيين لهذه المعاقل، للخروج بالتوصيات والاقتراحات المنشودة في هذا الشأن.
ما هي حصيلة عمل الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة؟
جدير بالتذكير أن مرسوم 13 مارس 2007 المحدث للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة أناط بهذه الأخيرة اختصاصات محددة، يمكنني إجمالها في التشخيص والتقييم والاستشارة والاقتراح والتعاون والتواصل وتلقي الشكايات والتبليغ عن أفعال الفساد. وأستطيع القول بأن الهيئة استطاعت، بعد عامين من تنصيبها، أن تضطلع بجميع هذه المهام؛ حيث قامت بتشخيص ظاهرة الرشوة اعتمادا على المسح الوثائقي لما أُنجِزَ في الموضوع، فتأكد لها إجماع مختلف التقارير الوطنية والدولية على أن رقعة الفساد تتجه نحو التوسع والاكتساح الحثيث لمختلف البنيات المؤسساتية والاقتصادية والسياسية والتربوية. كما قامت بتقييم شمولي لسياسات مكافحة الفساد، فتبين لها وجود بعض مواطن النقص التي يتعين تجاوزها، خاصة على مستوى البعد الاستراتيجي للمكافحة، وعدم وجاهة نظام العقوبات، وعدم تماسك الآليات المؤسساتية، ووجود بوابات محتملة للإفلات من المتابعة والعقاب. وعلى مستوى الاستشارة، قدمت الهيئة تصورها الخاص حول مشروع إصلاح القضاء، ومشروع إصلاح منظومة الصفقات العمومية، ومشروع الجهوية الموسعة، كما قدمت رأيها بشأن تحيين برنامج عمل الحكومة في مجال محاربة الرشوة من منطلق موقعها كعضو ملاحظ في اللجنة التي أحدثت لهذا الغرض، إضافة إلى تقديم موقفها حول الإعلام في إطار الحوار الوطني حول هذا الورش الحيوي.
ماذا عن مقترحات الهيأة؟
بخصوص دورها الاقتراحي، تقدمت الهيئة، في إطار تقريرها السنوي 2009، إلى السلطات العمومية بثمانية توجهات استراتيجية ترجمت إلى 25 اقترحا تم تصريفها في 113 إجراء عملي، همت بشكل عام الآليات الزجرية، والشأن السياسي والحزبي، والصفقات العمومية، والقطاعين العام والخاص، والإعلام والتواصل والشراكات.. وفي ما يتعلق بمهمة التعاون والتنسيق، شاركت الهيئة في إحداث مرصد للأخلاقيات في المجال الجمركي، كما قامت بوضع بوابة مشتركة للتبليغ عن الرشوة من طرف المقاولات الصغرى والمتوسطة، كما قامت، بالتنسيق مع وزارتي الصحة والنقل بإنجاز دراستين حول هذين القطاعين، وهي الآن تستعد للتوقيع على بروتوكول للتعاون والشراكة مع المفتشية العامة للمالية الذي سيفتح أمامها أفقا مهما للاستفادة من الصلاحيات المخولة لهذه الهيئة الرقابية. وبخصوص الشكايات والتبليغ عن أفعال الفساد، توصلت الهيئة المركزية منذ انطلاق أشغالها في يونيو 2009 إلى الآن بحوالي 175 شكاية عن طريق البريد أو الحضور الشخصي، أحالت منها على السلطات القضائية المختصة 14 شكاية. كما توصلت بما مجموعه 617 تبليغ عبر البوابة الالكترونية www.stopcorruption.ma المخصصة للمقاولات الصغرى والمتوسطة، منها 157 تهم بالفعل المقاولات.
يبدو أن الهيئة تواجه إكراهات سياسية أيضا خاصة ما يتعلق بعلاقتها مع الحكومة؟ لا يمكن أن نتحدث عن معيقات سياسية بالمفهوم السلبي، لأن هناك إرادة معلنة من أعلى سلطة بضرورة مكافحة الفساد، بعد أن أصبح مؤكدا أن هذه الآفة تشكل عقبة أساسية أمام اختياراتنا التنموية وانفتاحنا المتواصل واستقرار وأمن بلادنا. لذلك، فإن ما يمكن أن نتحدث عنه هو صعوبة الإشراف والتنسيق بالنسبة لهذا الورش الحيوي، حيث أستطيع القول في هذا الصدد، بأن الهيئة قامت بدورها كاملا كقوة استشارية واقتراحية، فأحالت على السلطات العمومية، في إطار تقريرها السنوي 2009، ثمانية توجهات استراتيجية ترجمت إلى 113 إجراء عملي. لكن، لوحظ أن الحكومة لم تتجاوب مع أغلب هذه المقترحات، واكتفت بتحيين برنامج عملها وفق مقاربة لا تستوعب مقومات البعد الاستراتيجي لسياسة مكافحة الفساد، ولا تدرج ضمن أولوياتها المقترحات الأساسية ذات الأثر الفوري والمباشر على الرأي العام، والمرتبطة على الخصوص بتفعيل آليات إنفاذ القانون، وتحصين الجهاز القضائي بالاستقلالية والتخصص اللازمين للاضطلاع بدوره الأساسي في مكافحة الفساد والمفسدين، ولا تكرس مقاربة قطاعية وتشاركية فعالة، ولا تدرج ضمن برامجها البعد الجهوي ومستلزمات الحكامة الترابية. وهنا، يجدر بي أن أنبه إلى أننا أخذنا هذا الإكراه بعين الاعتبار في أفق المراجعة الشمولية للإطار القانوني للهيئة، ضمانا لقيام الهيئة مستقبلا بمهام الإشراف والتنسيق والتتبع والتقييم بالفعالية المنشودة والتعاون المثمر مع كل الفعاليات.