ما الذي يجعل مطربا أو مطربة مغربية يغنيان بالخليجية، وما الذي يرغم كاتبا أو شاعرا يهرول إلى الخليج كأن الثقافة والحداثة انطلقتا من هناك، والحال أن الخيال ممنوع في الخليج والحرية أضيق من أي مكان آخر في العالم. لقد أصبحنا ضحية الذوق الخليجي، لا فرنسا عادت تؤثر فينا ولا أمريكا، وعندما تمطر في دبي أو الدوحة، رغم أنها نادرا ما تمطر، نحمل نحن هنا المظلات.
كلما ظهر لاعب موهوب يتخلجن وينهي مساره قبل أن يبدأه في الغرافة أو الخريطيات، وكلما ظهر شاعر يبيع خياله حسب الطلب، ويفكر أولا في ما يطلبه القارىء الخليجي والناشر الخليجي ويضحي بقصائده، فيكتب شعرا فصيحا ونظيفا ومفهوما ومليئا بالشجن والبؤس والغنائية المفرطة، أما الممثلون، وإذا ما عجزوا عن تعلم تلك اللهجة، فإنهم يجتهدون لتعلم العربية الفصحى وركوب الخيل وحمل السيوف، طمعا في العثور على مكان لهم في جنة الإنتاج الخليجي.
معظم الأصوات الغنائية المغربية الجميلة التي ظهرت في السنوات الأخيرة صارت اليوم خليجية، كلهم يتنافسون على لحن واحد، ويغيرون الكلمات فحسب، ولا يقنعهم كل الثراء الموسيقي المغربي، الذي يهجرونه لأنه غير مربح.
حتى الرشيقات بينهن صرن بدينات ومنتفخات إرضاء للذوق الخليجي، وأكثر من واحدة نفخت شفتيها وكبرت صدرها وأصبحت لها شقوق وثنايا في بطنها، ليفرح بها الخليجيون ولتجد موقع قدم لها أمام المنافسة الشديدة.
لا أعرف متى وكيف تتعلم الفنانات المغربيات اللهجة الخليجة، يتحدثن بها بطلاقة وهن مقيمات معنا، ومجرد مشاركة واحدة في برنامج للمواهب في قناة من قنواتهن، فتصبح ألسنتهن طليقة كأنهن ولدن وعشن في الخليج.
لم يحدث أبدا في التاريخ أن أغرت ثقافة بدوية أهل مدينة وحضارة عريقة قبل أن يظهر هذا الافتتان بالخليج، الإسلاميون بدورهم يضبطون ساعتهم على التوقيت الخليجي، حيث الدعاة والمقرئون والسلفيون، لا أحد يريد أن يبقى مغربيا، كل شيء يأتي من الصحراء، الموضة واللباس وطريقة التفكير والضحك، وكل ماراكمناه من ثقافة وإبداع لم يعد يعني شيئا، إلا إذا اهتم به الخليجيون وتواضعوا وحاولوا فهمه.
لم يعد الغرب الأوربي قادرا على منافسة الخليج، ولم تعد شعارات الاستعمار الثقافي والاستلاب والغزو ذات دلالة، لقد تغير المعطى، وأصبحت الأرض تتنفس خليجيا.
المشارقة كانوا ضحية لهذا الغزو قبلنا، بل إنهم عانوا منه أكثر منا، والمتتبع للإعلام اللبناني مثلا، يعرف أنهم لم يأخذوا الفن فقط، بل أخذوا الجرائد والقنوات والليبرالية والحداثة واليسار، وأصبح كل شيء يمارس انطلاقا مما يحتاجه الجمهور الخليجي.
لا يمكن لأحد أن يكون ضد الثقافة والذوق الخليجيين، لكنه ذوقهم وثقافتهم، يحبون العطور النفاذة والنساء عندهم يسرفن في الماكياج ويلطخن وجوههن بالأحمر الفاقع، وحينما تذهب فنانة مغربية تصبح مثلهن تماما، والكاتب المغربي عندما يهاجر إلى جرائدهم ومجلاتهم يكتب بتعميم ومحاذير لا توجد إلا في الخليج، فيتحدث عن العالم العربي، وتصبح دولة مثل المغرب بلا تاريخ ولا أحزاب ولا مجتمع حي وثقافات متعددة، إنها مجرد دولة في العالم العربي، مثل قطر أو السعودية أو الإمارات، والأخطر أن هذا الغزو والافتتان بالخليج، وصل إلى الصحفيين أيضا، فنفاجأ أحيان بزميل لنا يدافع عن قطر ضدا على السعودية أو العكس، أو زميلا آخر يمدح أميرا خليجيا، لتصبح تلك المنطقة هي مركز العالم، وكل جديد لا يأتي إلا منها.
هناك مغن مغربي شاب اسمه سعد لمجرد، له أغنية مشهورة، بكلمات مهجنة بين المغربي والخليجي، وتلقى هذه الأغنية نجاحا كبيرا في العلب الليلية وعند الخليجيين، وتغنيها البنات بطلاقة، لها لازمة تقول سالينا سالينا، يرددها الجميع لإيمانهم بأن كل شيء انتهى، وأننا فعلا سالينا سالينا، هاد الحب سالينا، وأنه يوما ما سيصبح المغرب خليجيا، بعد أن صارت العباية تنافس الجلابية، وبعد أن أصبحت المواهب تهاجر تباعا إلى أرض الميعاد.