إسمع ياتوفيق, إمع ياتوفيق, وينطلق الرجل في جذبة جديدة من جذباته. توفيق المقصود هنا هو الوزير المكلف بالأوقاف, والرجل الجاذب دوما وأبدا هو عبد الله النهاري, واحد من نجوم الدعوة عبر الأنترنيت إلى الله وإلى أشياء أخرى. رجل اشتهر عبر تغطية بعض وسائل الإعلام لخرجاته التي تأتي غالبا مثيرة للجدل, والتي استهلها يوما بتكسير صورة على المنبر, وبعدها انهال علينا جميعا شلال من تصريحاته التي تنافس بعضها البعض في إثارة استغراب الناس حينا, وسخريتهم أحيانا أخرى, وغضبهم في ثالث الأحايين, حين عدم القدرة على التعامل باستهزاء مفترض ومفىوض مع مثل هاته الأشياء. ومع ذلك لا ينفع التجاهل مع الرجل, والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو : لماذا يصبح شخص مثل عبد الله النهاري رقما أساسيا في معادلة الدعاة الجدد إلى الله أو إلى أشياء أخرى _ الله ألعم _ ولماذا يحظى أمثال هؤلاء بمتابعة ناسنا, وبمد الأذن إليهم ولو أنهم يقدمون نموذجا مخالفا تماما لنموذج الفقيه المغربي السوي المعتدل, الهادئ الذي نعرفه والذي تعلمنا جميعا حب الدين الإسلامي على يديه؟
للأمر أولا علاقة بالرغبة في تقليد المشرق في أسوء مالديه. المتابع لطريقة إلقاء النهاري لخطبه سيلاحظ دونما عناء رغبته في التشبه بعبد الحميد كشك, الداعية الشهير الذي صنع صيته كله بعبارة "سمعني الصلاة على الحبيب المصطفى", بالإضافة إلى سب الناس "من الطرف حتى للطرف", ابتداء من أم كلثوم التي كان يتندر منها وهو يسألها "أروج لمين؟ حتروحي للجحيم إن شاء الله", ووصولا إلى رؤساء مصر والرؤساء العرب, والكتاب والمفكرين والممثلين وكل من اشتهر يوما إلى الدرجة التي جعلت عبد الحميد يتسلق على شهرة كل من هاجمهم يوما لكي يصنع شهرته الخاصة به التي جعلت كتبياته الصغيرة تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه في لحظة من اللحظات, وجعلت من أشرطته السمعية أمرا قابلا للتداول في كل البيوت المسلمة دون أي استثناء. فرق كبير بين كشك وبين النهاري على مستوى السمعة والانتشار, بل حتى على مستوى طريقة الإلقاء وطرافة المعلومة المقدمة, خصوصا وأن كشك كان مصريا كامل المصرية, أي إنسانا قادرا بلغته المحببة المستلة من القاموس الشعبي لأهل الكنانة, والمطعمة بروح النكتة القاتلة التي يتحلى بها المصريون على شد انتباه المستمعين إليه. النهاري من جهته يفتقد الحس الساخر, يوعوضه بالجذبات المثيرة للانتباه, ويعوضه أيضا برغبته التي يجد صعوبة في إخفائها في الاشتهار بأي ثمن كان, إلى الحد الذي جعله يتورط في واحدة من آخر اسكيتشاته الدعوية في سب امرأة مغربية محترمة هي أم دنيا باطما فقط لأنها ترتدي الحجاب, حيث اعتبر أن سترة الرأس الموضوعة على شعرها تتعارض مع دعائها لابنتها بالرضا مما جبل عليه المغاربة منذ القديم قبل أن يأتي النهاري إلى الوجود.
ومع ذلك هناك إشكال. الناس الذين ينصتون لهذا السيد, والذين يعتبرونه وليا من أولياء الله الصالحين, الراغبين فقط في الدعوة إلى طريق الحق, لايقبلون أي انتقاد لشيخهم, وهو يمارس عليهم أثر السحر, وقد أتيحت لي الفرصة لمجالسة واحد من مريديه لم يترك كلمة غزل واحدة تكاد تقترب من القدسية لم يضفها على الرجل, وحين سألته عن درجة العالمية التي نالها ومن أي جامع أو جامعة أو مسجد وعلى يد أي فقيه أو عالم, لم يجد الرجل جوابا آخر غير أن يقول لي "الله هو اللي فقهو".
أنا مؤمن بالسليقة والممارسة, وأكره ما أكرهه في حياتي هو أن أترك الدين جانبا لمن يعتقدون أن بإمكانهم الاستفراد بالحديث باسمه, لذلك ضايقتني العبارة رغم الإيمان لأنني أعرف أن الله سبحانه وتعالى لم يفقه أحدا غير النبي صلى الله عليه وسلم, أما بقية الآدميين,فإما فقهوا أنفسهم أو تتلمذوا على أيدي علماء سبقوهم إلى الفقه الحقيقي. والمصيبة الكبرى هي أن فقه الرجل ليس فقها إطلاقا. الأمر قريب إلى الاسكيتش منه إلى أي شيء آخر, والمعلومة الدينية التي تخرج منها بعد إنصاتك إليه لا يمكنها أن تشفي غليلك إذا كنت راغبا في علم فعلا, طالب استزادة منه. الشيء الوحيد الذي تخرج به بعد مشاهدتك لاسكيتشات الرجل وخطبه هي أن الإسلام العظيم يتعرض على أيدينا جميعا للإذلال, فقد أتى علينا حين من الدهر منحنا تافهينا ومهرجينا فرصة الحديث عنه وباسمه, ومنعنا علماء الأمة الفعليين الكبار من أن يكون لهم أي رأي حوله, بأن سفهناهم وقدمناهم في أبشع الصور وأكثرها إذلالا, وعملنا لسنوات على تقديم نماذج معينة لأناس أرادوا ممارسة السياسة بالدين والدين بالسياسة, فنجحوا فعلا في فرض أنفسهم بدائل وحيدة في المجال, تطل علينا من كوتها الشهيرة لكي تعطينا الخيار بين الفقه المتطرف الذي تروج لخ أو فقه الاسكيتشات الذي يروج له أمثال النهاري.
الخلاصة الأخيرة هي أن الدين العظيم الذي بني على كتب ومؤلفات من الاجتهاد الفقهي الكبير, أضحى اليوم أداة سخرية لمجموعة من الحمقى يبحثون به عن الشهرة الزائفة, وعن المجد الافتراضي العابر. وماذا بعد؟
لا شيء, لا شيء على الإطلاق. هباء يلي هباء إلى أن يرث الله أمة الجاهلين هاته, ويعفينا من كل هذا الهراء.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق رحم الله صديقا. العدلوني الكبير عازف الغيتار الأكثر تميزا في المغرب فارق الحياة الإثنين الفارط. لعلها لعنة اارتبطت حتى الختام بفننا المغربي أن يفقد أوراقه كلها الواحدة تلو الأخرى في زمن متقارب, لكي يحس بقيمة الفقد أولا, ولكي يعرف أنه ترك العديدين من هؤلاء في الظل مقابل منح الواجهة ظلما وعدوانا لبعض المعتدين على الميدان.
صديقا كان متميزا جدا, وكان نسيج وحده, ولم يسع يوما لتقليد أحد, بل اختار مسارا متفردا للغاية استطاع من خلاله نحت إسمه ولو أن الإعلام تجاهله كثيرا قبل أن يعيده البعض وفي مقدمتهم ادريس المريني مشكورا إلى التلفزيون في آخر أيامه. رحم الله صديقا, ولا عزاء لفن مغربي يفقد يوما بعد الآخر كل أوراقه