يعيش المغرب اليوم على إيقاع المعرض الدولي للكتاب، وهو معرض يأتي في ظروف خاصة للغاية، عربيا ودوليا ووطنيا بالأساس. كما أن أول شيء يلاحظ هذه السنة أن المعرض جاء هادئا وبلا صخب مفتعل ولا توترات مستعجلة ومضادة للكتاب والمثقفين، وبدون تحقير لهم أو إذلال نفسي ورمزي. إنه معرض ككل المعارض في العالم، وكما تمت في المغرب لسنوات طوال، لا شك أن أشياء كثيرة قد لا ترقى إلى ما يريده المغاربة، والمنظمون منهم، وقد لا ترقى إلى الطموح الذي يسكن كل المثقفين في المغرب، لكن كونه معرضا بلا طحين ولا جعجعة فارغة، هو بحد ذاته عودة إلى السياق العادي، وعودة إلى سلاسة التنظيم التي تفترض في موعد ثقافي مثل هذا.
سنكون، أيضا، أمام معرض تحج إليه قوافل الكتاب والمثقفين من المغرب كله، وكذلك من دول عرفت في الفترة ما بين المعرضين، تحولات جذرية. سيأتي الأشقاء التونسيون وهم يحملون معهم الثورة في الكتابة و التواصل، ويحملون أحلام جيل مغاربي ظل ينتظر رحيل الدكتاتوريين، لكي يبدأ من صواب التاريخ وينطلق باتجاه صواب الجغرافيا.
وسيأتي الأشقاء الليبيون، أيضا، ومعهم سيل من الحكايات والتحليلات وسيل من الدم الذي سقى الفكرة النبيلة للوطن، وسقى الحرية..
وكذلك المصريون والسوريون، الذين مازالوا يعجنون، إلى حد الساعة، تربة التاريخ ليصنعوا أفقا جديدا بعيدا عن الحاكم وأسرته وقبيلته.
ومن الأشياء الأساسية، التي ستحضر، ولا شك، في المحاضرات واللقاءات والنقاشات، هذا الأفق الجديد الذي رسمته الشعوب في المنطقة العربية الواسعة لنفسها. وهنا في قلب هذا التحول توجد فكرة القيم، وعودتها القوية، سواء من خلال الدفاع عن الكرامة أو الحرية أو العدالة أو الحقوق الفردية. ولم يسبق أن كان الإشكال الثقافي، بقيمه ومسنوداته الروحية بمثل هذه الراهنية، كما هو عليه اليوم.
الثقافة اليوم تستعيد مركزيتها في صلب الصراع. وليس غريبا أن الذين يقودون اليوم الواجهات السياسية في الدول العربية، فضائل لا تنتج كتابا ولا مبدعين ولا سينمائيين. وإن هؤلاء كانوا مع التغيير وإلى جانب شعوبهم، لكنهم لم يكونوا أبدا مع التعبيرات السياسية والمؤسساتية المتوجة اليوم على رأس الدول.
لقد كان غرامشي يقول إن الهيمنة السياسية هي الإبنة الشرعية للهيمنة الثقافية.. وعلى كل فإن المعادلة الحالية لا تستجيب بالمطلق لهذه الخطاطة، فنحن نجد في الكثير من الأحيان أن الهيمنة الثقافية لا تستوفي كل شروطها إلا بإدخال العنصر الديني، وليس الإنتاج البشري من أفكار وإبداعات ونماذج حية للسلوك الإنساني في العصر.
نحن أمام مفارقة واضحة، والهيمنة الثقافية اليوم هي للفكر المحافظ والسفلي والإخواني، من مشارق العرب إلى مغاربهم. ولابد من استعادة هذا الأفق الإنساني المنفتح لكي يكون هناك توازن في المجتمعات ونعيش عصرنا بدون نزاع فارق. وهي مسؤولية كبيرة على المثقفين الديموقراطيين والحاملين لمشاعل الحرية الكونية ولقيم الإنسان المعاصر ولإفكار التقدم والتحديث بكل أنواعه.
إن المسؤولية والنزاهة الفكريين تدفعاننا إلى القول بأن جزءا من نخبتنا أضاعت السؤال الثقافي، وأضاعت أفقه الإنساني الكبير والمنفتح، ولم يعد من الممكن اليوم أن نكتفي بالعلاج السياسي للمعضلات المطروحة، بل أصبحت الثقافة رهانا حقيقيا لبناء الذاتيات الإنسانية القادرة على تخصيب التاريخ ..