بين سنة وأخرى تتأرجح الساعات في انثناءتها الأخيرة نحو المضي. الثانية عشرة ليلا لاتعني شيئا في نهاية المطاف إلا هذا اليوم واليوم الذي يليه. يبدأ العد العكسي. تنثال الدقائق تحت تراب الأبدية لاتعود, ويشرع الناس في الحساب. عشرة, تسعة....ثلاثة, إثنان, واحد, هابي نيو يير", وتبدأ الاحتفالات أو تنتهي. الأمر سيان ختاما. في مثل هذه اللحظات لامفر من تذكر من لا يحتفلون, وإن كانت أغلبية شعبنا أصلا لاتعني لها الساعات القادمة شيئا. يوم آخر من أيام القتال ضد الحياة ينتهي, ويوم جديد يبدأ بمصاريفه, بالأشياء العالقة التي ينبغي تخليصها قبل أن تتفاقم, بالمشاكل اليومية وبثقوب الحياة التي ترفض الرتق, وتصر على أن تظل باستمرار فاتحة أفواهها إلى مالانهاية.
لنتذكر المرضى أولا. في مثيل هاته اللحظات يحسن أن يشكر الإنسان الحياة على الصحة التي ينعم بها وأن يلتفت جهة الآخرين الذين قد لايعني لهم العام الجديد إلا موعدا جديدا من مواعيد الطبيب. سيغيرون رقم 11 برقم 12, وسيواظبون كل مرة على تذكر الأشهر بالمواعد الطبية التي تحاصرهم. بعضهم في سن متقدمة, وبعضهم في بداية الحياة, وتجربة المرض بالنسبة إليهم ولعائلاتهم امتحان فعلي لاينتهي كل ثانية وكل دقيقة وكل ساعة, يخوضون من أجل الانتصار فيه المعارك البطولية الحقيقية التي لاتنقلها تلفزيونات ولا تهتم بها جرائد, ولا تعيرها إذاعات أدنى انتباه. لهم التحية والعام يلفظ أنفاسه. لهم كل التقدير.
لنتذكر الأمهات في هاته اللحظات المتأرجحة بين النهاية وبين البداية. يضعن بين الطرفين الأسفل والأعلى من العين الأبناء والعائلات, ويخضن الصراع تلو الصراع من أجل حياة كريمة تبدو لهن حقا عاديا, وتبدو للكثيرين غير ممكنة إلا للقلائل. حين يغمضن العين لوهلة لا يسترحن, يتذكرن أن عليهن الاستيقاظ مجددا من أجل أن يجهزن للصغار _ وإن كبروا وإن غزا الشيب منهم كل المفارق _ إفطار الصباح الشهي, وقهوة الاستفاقة وكل الآمال. لهن التحايا اللاتنتهي إلى آخر الأيام.
لنتذكر المحرومين من حريتهم بيننا. الناس الذين يوجدون لسبب أو لآخر وراء القضبان الآن. في مجتمع كالمجتمع الذي نحيا فيه من السهل جدا أن تفقد حريتك يوما وأن تصبح أنت الآخر سجينا أو أسيرا أو معتقلا. المبررات لهذا الأمر متوفرة "بالهبل" في السوق, ومايفعله المغاربة معها هو أن يدعون يوميا لكي تخرج الأمور _ ومعها السربيس الجماعي _ بخير وعلى خير, لذلك يبدو مشهد العديدين من أسرانا حاثا على تذكرهم, وتذكر الأيام الصعبة التي دفعت العديدين إلى تغيير المسار وإلى التحول إلى سكان لتلك الأمكنة المزروعة وراء الجدران, للإصلاح والتهذيب مثلما تقول الأسطورة الرسمية, للمزيد من التفنن في الإجرام مثلما تقول الوقائع كل يوم.
لنتذكر فقراءنا هذا اليوم. كم نحن في المغرب؟ نحن الأغلبية الغالبة. من رسم للمشهد المغربي شكله العام نسي أن إبقاء كل شيء في يد فئة واحدة ونسيان الآخرين أمر يقود فقط إلى الهلاك, واليوم والبلد يحاول رتق العيوب الكثيرة التي نتجت عن سنوات الدمار والتدمير, نفهم حجم المصاب. ومع كل كاريان نهدمه, وقربه يبنى كاريان جديد, نعرف أن حجم ماارتكبناه في حق بلدنا _ بطمع البعض منا وبسكوت البعض الآخر _ هو أكبر من أن يتم تضميده في قليل السنوات, ونزداد اقتناعا بأن المعركة الكبرى التي تنتظر الوطن ليست معركة الشعارات العظمى التي أرددها أنا وأنت وقلة قليلة من "القاريين", ولكنها معركة الكرامة اليومية للناس. أن لايلتفت أبناءهم جهة شيء يريدونه, وأن يرفعوا الأعين إلى الأعلى جهة الآباء فيجدوا الانكسار تلو الانكسار. الشعب اللاكرامة له, واللاقدرة له على تلبية مطالب الصغار, هو شعب لايستحق الحياة.
لنتذكر شبابنا هذه السنة بامتياز. لنتذكر أنهم صنعوا تاريخا جديدا للبلد يوم العشرين, من شهر معين يقال له فبراير.
بغض النظر عن كل شيء, كانوا في الموعد حقا. استطاعوا على الأقل أن يرفعوا سقفنا عاليا فوق الرؤوس. الطبقة السياسية المتكلسة, والبئيسة والبليدة التي كانت لنا حتى هذه الأثناء توقفت عند لحظات توافقها الزائفة مع الرداءة والقبح المسيطران على المكان. الشباب من جهتهم اختاروا الخروج عن المألوف وقالوا الكلام الذي لم يقله أحد قبلهم. والنتيجة كانت ماذا؟ النتيجة كانت إيجابية للغاية. ريح جديدة هبت على البلد. ذكرت "الغمال" الذي استوطنه لسنوات أن "ضربة المقشة" آتية, وأنه قد آن الأوان لكي يذهب جيل ركيك للغاية وأن تأتي الأجيال الجديدة بكل عنفوان القوة فيها لكي تصلح خطأ الأسلاف. نعم, ركب متطرفون قدامى على الحركة, نعم أخطأت في بعض الأشياء، نعم ارتكبت هفوات البداية الضرورية, لكن لنعترف أنها هي التي زعزعت كل شيء, وهي التي أتاحت لنا البدء مما يشبه الصفر, وأعطتنا القدرة على الكثير من الكلام. لنتذكر أن شباب المغرب الذي أدهشنا هذا العام قادر على المزيد من الإدهاش, ولنتذكر الآخرين الذين نسيناهم حتى ونحن نحاول التذكر, ولنقل لبعضنا البعض أمانينا بأن يكون العام المقبل أفضل من سابقيه, فالبلد كله لم يعد حمل أي رجوع للوراء. سنة سعيدة للجميع