محمد هو إسم آخر نبي بعثه الله تعالى إلى قبيلة قريش منطلقا منها لتبليغ رسالته إلى العالمين ، شاهدا و مبشرا و نذيرا لإخراج المكلفين في هذه الأرض من الظلمات إلى النور و يهديهم إلى صراط مستقيم بفضل كتاب الهداية القرآن الكريم الذي هو كلام الله المنزل عليه بواسطة جبريل عليه السلام . و بما أن محمد ( صلع) هو اللبنة التي أتم الله بها دينه الذي رضيه تعالى للناس ألا و هو الإسلام حين قال عز و جل { و رضيت لكم اٌلإسلام دينا } ( المائدة ؛ 3 ) ، فإن سيرته عليه الصلاة و السلام كانت مميزة عن غيرها من السير السابقة سواء أكانت للرسل و الأنبياء أو لأولئك الذين تركوا بصماتهم خلال حياتهم ، لأن هذه السيرة العطرة كانت شاملة لكل ما يمكن أن يحتاجه الإنسان في حياته ، و كانت عالمية لكل الناس ، كما كانت أصح سيرة على الإطلاق لأنها ذكرت في أصح كتاب من الله للبشر و هو القرآن الكريم الذي وعد الله بحفظه في قوله { إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون } . و سنحاول في موضوعنا هذا التطرق إلى حياة رسول الله ( صلع) قبل بعثته مع الإشارة إلى الروايات الكثيرة و المتضاربة في بعض الأحيان و التي وصلتنا عن هذه الفترة التي يمكننا أن نستخلص منها مجموعة من العبر و المواعظ. فبماذا تميزت سيرة الرسول ( صلع) في هذه المرحلة من حياته ؟ و ما هي بعض هذه الروايات التي اختلفت فيما بينها ؟ و ماهي تلك التي يمكننا أن نسلم بها ؟ لقد ولد خاتم النبيئين ( صلع) في أسرة نسبها شريف تمتد جذورها إلى نبي الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة و السلام . و قد تم الاتفاق على سلسلة نسبه التي تصل إلى عدنان ، لكن كان هناك اختلاف في بقية السلسلة . و قد عاش أجداد الرسول ( صلع) في مكةالمكرمة التي بنى فيها جده إبرهيم الكعبة بمساعدة ابنه إسماعيل حتى وصل موعد ولادته الذي صادف وقوع حدث سجله التاريخ و ذكره القرآن الكريم في سورة الفيل : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل . ألم يجعل كيدهم في تضليل . و أرسل عليهم طيرا أبابيل . ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف ماكول } . فقد حاول أبرهة النجاشي في هذا العام ، و هو حاكم اليمن ، أن يهدم الكعبة التي هي بيت الله من أجل أن يغير الناس حجهم منها إلى كنيسته التي بناها في صنعاء و زينها و جعلها في أحسن حلة . و عند مشارف مكة استولى على بعض ممتلكات قريش من بينها مئتي ناقة تعود لعبد المطلب جد الرسول ( صلع) الذي كان من سادة القبيلة ، و هو من ذهب إليه و فاوضه . و كانت دهشة أبرهة كبيرة عندما لم يحدثه عبد المطلب عن بيت الله الحرام و اكتفى بطلب إعادة الممتلكات المسروقة و قال قولته الشهيرة ( أنا رب هذه الإبل و للبيت رب سيمنعه ) . و لتحقيق هذا الأمر الذي زينه الشيطان له أحضر معه جيشا كبيرا يتقدمه فيل ضخم . و كانت مهمة هذا الأخير هدم بيت الله حيث وجهوه إليه لكن أبى إلا أن يمتنع لأنه فهم أن ذلك البيت معظم عند الله ، و هذا ما لم يفهمه أبرهة و جيشه لأنهم كالأنعام أو أضل سبيلا . فكان الجزاء عذاب من حجارة جهنم الحارقة . و كان لهذا الحدث التاريخي دلالة قوية ببعثة النبي محمد ( صلع) إذ ازداد تعظيم الناس لهذا البيت ، و ازدادت مكانة قريش في نظر القبائل إذ صاروا يقدرونها و يعظمونها و اعتبروا سكانها أهل الله . و بذلك أصبح خروج نبي من قريش أمرا متقبلا لدى الناس و سيسهل اتباعه . إذن فعام الفيل هو من إرهاصات النبوة . و فعلا فقد ولد النبي ( صلع) في هذا العام . و قد وصلتنا روايات كثيرة تتحدث عن هذه الولادة فمنها من أقرت بأنها كانت طبيعية . و منها من أفصحت على أنها لم تكن طبيعية. فقد قيل أنه في يوم ولادته أُطفئت نار الماجوس ، و قيل أن اثنا عشر شرفة سقطت في كسرى ، و قيل أيضا أنه ولد ساجدا ، و في أخرى أنه كان رافعا يده ، و هناك رواية قبلها المحدثون تصرح أن أمه رأت نورا تخرج منها حتى أضاءت قصور الشام . و من بين ما قيل أنه ولد مختونا رغم أننا نجد في رواية أخرى أن جده عبد المطلب قام بختانه في اليوم السابع بعد ولادته ، و قيل أيضا أن أمه لم تجد مشقة في ولادته . و هذه مردود عليها إذ أن هذا الأمر موجود في ولادات كثيرة. و نحن نتساءل عن الحكمة من كل هذه الروايات، فلا نجد شيئا سوى جعل ولادته أمرا خارقا لا حكمة فيه ، كما أن القرآن الكريم الذي لن يفوته أمر كهذا لا يوجد فيه شيء من ذلك . فعندما كانت ولادة عيسى عليه السلام غير طبيعية ذكرها و فصلها تفصيلا ، لذلك فلابد من التسليم من أن ولادة الرسول ( صلع)ولادة طبيعية لم يشبها أي خوارق ، و ما تلك الروايات المختلفة إلا زيادات لا فائدة و لا حكمة منها . بعد الولادة تأتي الرضاعة ، و كان من العادات المعمول بها في ذلك الزمن أن تأخذ الأعرابيات الزائرات لمكة الصغارَ لإرضاعهم ، و كان خاتم النبيئين من حظ حليمة السعدية ، التي لم تكن ترغب به في البداية . و قد تضاربت الروايات حول سبب رفضها ، فمنهم من قال بسبب يتمه ، إذ كان أبوه عبد الله قد توفي قبل ولادته ، و اليتامى يُضطهدون إذا كانوا فقراء ، و تُسرق أمواهم إذا كانوا أغنياء ، و منهم من قال بسبب فقره و أنه كان ملفوفا في ثوب رديء . و يظهر أن اليتم هو السبب الأصح لأنه ( صلع) كان من عائلة تُعد من الأشراف فجده سُرقت منه مئتي ناقة في عام الفيل ، و هذا يُظهر الغنى الذي كان فيه . و من بين ما حدث لمرضعة الرسول ( صلع) و قبيلتها بني سعد بعدما أخذته حلولَ البركات عليها حيث ازدادت غزارة حليبها بعدما كان قليلا و غير كاف لصغيرها الذي كان يزعجها بالصراخ فصار هادئا ، و ازدادت الخضرة و البركات في قبيلتها ، أما النبي الصغير فقد تعلم فصاحة لسان بني سعد . و من الأحداث التي اختُلف فيها ، مسألة شق الصدر و هو صغير ، فهناك رواية تتحدث عن نسرين أبيضين جاءا إلى الرسول( صلع) شقا صدره و أخرجا علقتين سوداويين من قلبه ، ثم غسلاه بالماء و البرد و و ضعا السكينة فيه ، ثم خاطا صدره و ختما ختم النبوة فيه . و هناك رواية أخرى تتحدث على أن جبريل من آتاه فشق صدره و استخرج من قلبه علقة ، فقال هذا حظ الشيطان منك ، و غسله بماء زمزم ، ثم أخاط صدره . و يبدو أن هاتين الروايتان تريدان أن تفسر لنا ما جاء في سورة الشرح : { ألم نشرح لك صدرك و وضعنا عنك وزرك . الذي أنقذ ظهرك } . و لكن هل هذه الآيات تتحدث عن شق مادي أم معنوي نفسي بعيدا عن أي جراحة ؟ فقد انتقد هذه الروايات مجموعة من العلماء رغم ورودها في بعض كتب السنة المعتمدة من طرف أهل السنة و الجماعة ، و قالوا بأن شرح الصدر هو معنوي و ليس مادي ، و استغربوا من كون أن طفل صغير يتذكر ما حدث له و يعلم أن من جاءه هو جبريل ، بالإضافة إلى كون أن الحادثة وقعت لمحمد( صلع) في قبيلة بني سعد بينما ماء زمزم المستعمل في هذه العملية موجود في قريش ، فكيف إذن وصل إليه ؟ و قال البوطي أنه لو كان الشر منبعه غدة في الجسم أو علقة في بعض أنحائه ، لأمكن أن يصبح الشرير خيرا بعملية جراحية ، و هذا بطبيعة الحال ممكن بعد التطور العلمي الكبير الذي تمكن من تفصيل القلب تفصيلا يسمح بمعرفة كل خباياه و أسراره حتى تلك الأجزاء الدقيقة منه . و بالمقابل قد تمسك بتلك الروايات الكثير من العلماء بحجة وجودها في كتب السنة الصحيحة. و من الأحداث المؤثرة في حياة النبي ( صلع) وفاة أمه و هي عائدة به إلى مكة من عند أخواله ليصبح يتيم الأب و الأم ، فكفله جده عبد المطلب الذي كان يحن عليه و يؤثره على أعمامه ، حيث أن النبي ( صلع) كان يجلس على فراش جده الذي كانت له مهابة و لا يجلس عليه أحد ، و لما كان أعمامه يحاولون إبعاده ، يقف الجد بجانبه ، و يسمح له أن يبقى في فراشه و يقول لهم دعوا ابني فإن له شأنا عظيما . و توفي جده عبد المطلب و عمر الرسول ( صلع) ثمان سنوات ، فكفله عمه أبو طالب الذي احتضنه و رعاه . و في سن التاسعة رحل مع عمه إلى الشام حيث يوجد الراهب بحيرا الذي لاحظ خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة كما جاء في الروايات، فدعا أبو طالب و أشياخ قريش إلى الغذاء ، و أخبر عمه بأن يرجع به و يحذَر عليه من الروم فإن رأوه فسيقتلونه لأن فيه علامات النبوة . و نتساءل فإذا كان أشياخ قريش قد عرفوا هذا الأمر مبكرا ، فإن تصرفهم سيكون واحد من اثنين : إما أن يصدقوا الأمر و يحرصوا عليه و يكونوا له من المصدقين بعد بعثته ، و إما أنهم سيخافون من خطره على سيادتهم فيمكرون به و هو صغير قبل أن يكبر . و لكن لا شيء من ذلك حصل ، فلا هم حموه و رعوه حتى يصير نبيا و لا هم قتلوه و تخلصوا منه بل تفاجئوا به عندما أعلن نبوته ، و هذا يدل على أنهم لم يكونوا على علم بأنه نبي ، مما يضعف هذه الرواية التي استغلها المستشرقون و تحدثوا في كتب كثيرة على أن علم النبي ( صلع) كان مصدره الراهب بحيرا . و قد يقول لنا البعض إن بحيرا قد عزل أبو طالب لوحده و أخبره بهذا الأمر . و سنرد عليهم قائلين لو كان أبو طالب على علم بنبوته لكان أول من آمن به و شد آزره عند بعثته لأنه سيكون على علم بأنه نبي من عند الله حقا ، و لكن لم يحدث هذا أمر بل توفي و لم ينطق الشهادتين و هو يعتقد بصحة دين آبائه و عدم صدق ابن أخيه . و اشتغل النبي ( صلع) في الرعي وهو صغير ، و هذا الأمر علم الرسول مجموعة من الأمور الهامة نذكر من بينها الصبر فتربية البشر تحتاج إلى صبر ، و التواضع بحكم طبيعة عمله ، و الشجاعة لرد اللصوص ، و الرحمة و العطف على الغنم إن أصابها مكروه ، و الإعتماد على النفس في الكسب بيده و عرق جبينه . هذه الأمور التي اكتسبها من الرعي جعلته يكون مهيأ للمشاركة في القضايا التي تهم قريشا ، فشارك في حرب الفجار التي عاونت خلالها قريشٌ كنانة في حربها ضد قيس عيلان ،. و قد اختلف في سنه( صلع)خلالها ، فقيل أربعة عشرة سنة ، وقيل خمسة عشرة ، و قيل عشرينا عاما ، و يرجح الأولى أو الثانية لأن دوره اقتصر على جمع النبال و مناولتها لأعمامه ، و لا يقوم بذلك إلا حديث السن . و يذكر أن تسميتها بحرب الفجار بسبب استحلال حرمات مكة المقدسة عند العرب حيث هاجمت هوزان كنانة فيها . و شارك النبي( صلع)في حلف الفضول الذي أُنشأ لنصرة المظلوم من الظالم ، و السبب هو أن العاص بن وائل ، و هو الظالم ، اشترى بضاعة و لم يؤدي ثمنها لصاحبها القادم من زبيد، و هو المظلوم ، فتحالف كل من بني هاشم ، و منهم النبي ( صلع) ، و زهرة و بني تيم على منع مثل هذا الظلم . و سمّت قريش هذا الحلف حلف الفضول لأن هؤلاء دخلوا في فضل من الأمر. و قد تعلم الرسول ( صلع) من هذه التجارب الشجاعة و الإقدام و ترسيخ العدل و نبذ الظلم. و نتعلم نحن من ذلك جواز التحالف و التعاهد على فعل الخير. و لما اشتد عود النبي( صلع)اشتغل في التجارة إلى أن عرضت عليه خديجة بنت خويلد المتاجرة بمالها عندما سمعت عن صدقه و أمانته و أخلاقه . فحصلت على ربح كبير من الرحلة التي قام بها محمد ( صلع) إلى الشام ، فقررت الزواج به بعدما سمعت عن سماحة أخلاقه من غلامها ميسرة الذي رافقه في الرحلة ، فقبل عليه الصلاة و السلام ، و كان سن النبي ( صلع) خمسة و عشرين سنة أما سن خديجة رضي الله عنها فقد اختلف فيه : قيل أربعون سنة و هذا هو المشهور ، و نجد ذلك في كتاب الطبقات لابن سعد عن الواقدي، و قيل ثمان و عشرين في رواية ابن اسحاق ، و قيل خمسة و ثلاثين أو خمسة و عشرين في رواية نقلها البيهقي عن الحاكم ، و الغالب كما قال الدكتور أكرم العمري أن تكون ابنة الثامنة و العشرين لأن المرأة تبلغ سن اليأس على أقصى حد عند الخمسين ، و خديجة رضي الله عنها ولدت ستة ابناء للنبي ( صلع) مما يرجح سنها الصغير . و يعتبر زواجه عليه الصلاة و السلام من خديجة بمثابة تمهيد لاستقباله الوحي إذ أن ذهنه صفى و روحه تفرغت للتفكر في ملكوت الله و بدأت رحلة البحث عن الحق بعدما أصبح مرتاحا من الناحية المادية أكثر مما كان عليه . و أما نحن فنستفيد أن الصدق و الأمانة من صفات التاجر الناجح ، و أن التجارة مورد من موارد الرزق التي يجب أن يسعى إليها الإنسان ، و أن الزواج من امرأة أكبر سنا ليس عيبا إذا ما توفر شرط التراضي بين الطرفين . في الخامسة و الثلاثين من عمر الرسول ( صلع)، شارك في بناء الكعبة الشريفة بعدما قررت قريش تجديد بنائها لما أصابها من حريق و سيل جارف صدع جدرانها . و كان يساعد عمه العباس في نقل الحجارة . و عندما وصل العمل إلى الحجر الأسود اختلفت القبائل في من سيضعه مكانه حتى كادوا يقتتلون ، ثم قرروا أن يُحكموا بينهم الذي يدخل من باب المسجد أولا، فدخل النبي ( صلع) و لُقبوه بالأمين . فاقترح عليهم أن يحضروا ثوبا و يضعوا فيه الركن ، ثم تأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، و يرفعوا جميعا حتي إذا بلغوا موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه . فرضيت جميع القبائل بحكم الصادق الأمين عليه الصلاة و السلام . و يظهر ان الأمانة و الحكمة التي تحلى بهما الرسول ( صلع) جنّبت قريشا كارثة القتال في الحرم . و منحته بذلك مكانة أدبية في الوسط القرشي . و يتضح أن ما مر به الرسول ( صلع) قبل بعثته لم يكن صدفة ، و لكن كل ظرف أو حادثة كانت لها أهدافها و حكمتها التي هيأته نفسيا و روحيا و جسديا لتحمل مسؤولية الرسالة ، التي تعد من أصعب التكليفات التي يمكن أن يتحملها الإنسان . فاليتم و الفقر و شرح الصدر للإيمان و العمل برعي الغنم و التجارة و غير ذلك أخذ منه النبي ( صلع) الدروس و العبر جعلته يكون مؤهلا لهذه المهمة الثقيلة. كما تهيأ محيطه لتقبل هذه الرسالة بمجموعة من الأحداث كواقعة عام الفيل ، و نزول الخيرات و البركات على مرضعته حليمة السعدية و قبيلتها بني سعد ، و نجاح تجارة خديجة نجاحا مضاعفا بعمله معها ، و مشاركته في حرب الفجار و حلف الفضول ، و أمانته و حكمه الحكيم في قضية إعادة بناء الكعبة الشريفة . فكل ما حدث ساعده في الاستعداد لنزول الوحي من السماء ، و هذا ما حدث عندما جاءه جبريل عليه السلام لأول مرة و هو في غار حراء