في يوم من الأيام ومنذ سالف العصر والزمان . وفي بلاد هادئة لا يعرف الضجيج طريقا أو معبرا لها.عاش أناس طيبون لا يعرفون من الدنيا غير الصبر00 و الصبر000 ثم الصبر. هكذا عُرفت هذه البلاد الكريمة وعُرف أهلها ، وفي صباح مميز كتميز هذه البلاد الجميلة . انعقد مجلس القضاة كما ينعقد دوما وقد شاءت الأقدار أن أحضر هذه المحاكمة. دخل قاضي القضاة 00 وهو رجل في منتصف العمر قصير القامة . منفوخ البطن . ممتلئ الجسم . يتبختر كما الطاووس مزهوا بنفسه، يختال في مشيته تيها، يجر أذياله كبرا ، لا يرى من الناس غير حرسه وحاجبه 0000 ودخل أتباعه خلفه يمشون كما يمشي ويتبخترون كما يتبختر . وبدأت المحاكمة وسط جمع من الناس همهم قاضي القضاة فصمت الجمع وساد السكون المكان. فلم نعد نسمع إلا أنفاس بعضنا0 قال:﴿ وبصوت عالي ﴾ 000 هيا أيها الحاجب ادخل المدعي الأول غاب الحاجب للهنيهة00 ثم بعد ذلك دخل ومعه بعض الجنود يجرون خلفهم فتاة تغيب للحضور ها العقول . غادة في السادسة عشر من العمر جمالها ابهر الجمهور . فزاد المكان سكونا فوق السكون كأنما آلهة الجمال قد سحرت الوجود00 شعرها أسود منسدل خلف ظهرها .و وجهها كالبدر يضيء أمسية ضبابية .وحمرة خديها تلهب قلب الفتى والشيخ كلاهما للحسن عاشق و أسير . و الشمس تشرق من تغرها و الورد يفوح عبيره من فيها . جمالها لوحة مستوحاة من قصيدة شعر عربية00 نطق القاضي وقال :﴿وقد أخرجنا من سباتنا العظيم ﴾ وما سبب وجود هذه الفتاة بينكم؟ 00ولا يبدو عليها مسحة من الجرم أو من العهر 000 فأجاب أحد الجنود: 000لقد وجدناها بين أحضان رجل من أعيان الدولة . وقد أغوته هذه العاهرة ليقع فريسة بين يديها00 ويغدق عليها من ماله 000 ﴿ و دون أن تنبس الغادة ببنت شفة ﴾ التفت القاضي للفتاة و قال:خذوها إنها هلاك عيونها كالملاك000 وتغوي السادة وتمتهن البغاء خذوها 00وارموها بين تلك الجدران دعوا جسدها الجميل يتعفن بين تلك الحيطان00 انهارت الحسناء بالبكاء وصاحت يا ويلي 000يا ويلتي 000ما هذا الشقاء واختفت اللوحة الجميلة وسط غيمة من الصرخات وصاح القاضي00 إن تلك الفتاة لعنة من السماء فأحضروا المتهم التالي 0 دخل الجنود ثانية يجرون خلفهم فتى في ريعان الشباب حسن المظهر. و ذو بنية قوية وقف بأنفة وكبرياء كأنما لا يقف أمام قاضي القضاة . رمى عن نفسه عباءة الخوف وكسر جبروت الطغاة0 فقال القاضي: و ما تهمة هذا الشاب الذي يقف بين أيدينا شامخا .كأننا بين يديه لا هو بين أيدينا 00 فرد أحد الجنود : انه زنديق وكافر يدعوا للحرية ويشجع على العصيان لقد وجده جنودنا بين الصبية يدعو للفتنة 00ويثير الشغب .ويطالب بالحرية .ويشتم كل جبان ويلعن سلسبيل السادة 000ويصفهم بالطغاة ويُلقي خُطبا عن الفكر 00 والإبداع 00.ويقول إننا بحاجة إلى حرية الفكر، 000وبحاجة إلى أن نحرر عقولنا من الكبت والقمع ، و إننا يجب أن ننطلق ونبدع . ونكون جيلا خلاق وشعبا ناضجا 000لا يستنزف خيراته رجل طماع 000ويحكمه مجموعة من الجهلاء000 ﴿ وقبل أن يتكلم الفتى﴾ صاح القاضي : خذوه وبين تلك الجدران أرموه ودعوه بين تلك الجدران يناشد حبيبته الحرية ويبدع أيما إبداع 000 أخذوه وقد تحولت رغبة الحرية إلى قيد و أصفاد وقال القاضي: ﴿كأنما يريد أن يبرر للجمع أحكامه ﴾ انه يريد بشعبنا التفرقة والشتات 000هيا أتونا بالقضية التالية 000 فدخل رجل في الستينيات من العمر ، قصير القامة وسمين الجسم . وفاتح البشرة وله وجه مفلطح ، وشفتان رقيقتان ، ولحية طويلة... وعينان صغيرتان 000يلبس جلبابا ابيض وطربوشا احمر000 فقال القاضي: وما لي أرى سيد من الأعيان يقف أمامي000 ﴿همس من يجلس بالجانب الأيمن للقاضي﴾ وقال : 000انه رئيس بيت المال يا سيدي لقد اتهمه بعضهم بالسرقة والاختلاس ونهب أموال العامة دون وجه حق0 قال القاضي :هيا أطلقوا سراحه إن الاتهامات يلزمها أدلة ثبوت . ولا يمكننا أن نتهم الشرفاء ونرميهم بالفساد 000 وخرج رئيس بيت المال و الابتسامة تعلو محياه يتبختر. و بالنصر يحتفل0 ثم نادى المنادي بأن ادخلوا القضية التالية 000 ادخلوا هذه المرة رجل وقد غطى الشيب شعره .وظهر شقاء السنين على محياه .ورسمت خطوط العجز والقهر تضاريسا و خرائطا على جسده النحيل. وتقوس ظهره. حتى ظنناه شبح بين الأحياء فهمهم القاضي ثم صاح : وما تهمة هذا الرجل؟ فأجاب احد جنوده: انه شاعر يا سيدي و فيلسوف يحرض على الحب ويشجع على الفسق و يتحدث عن الطهر000 والنقاء 000 والعفاف فقال القاضي انه ملحد ويبغي بشريعتنا الفناء 000انه خائن ويتبع خطوات شيطان مارد000والعفاف منه براء 000 خذوه وفي الساحة ارجموه 000 وانتهت الجلسة فقد تعب قاضي القضاة انفض الجمع بين مؤيد للأحكام ومعارض. وفضولي وغير آبه . وبينهم أنا أتسأل كما المجنون000 متى كان الجمال هلاك ؟ومتى كانت الحرية كفر؟ومند متى أصبح المختلسين سادة وشرفاء؟ آ هي الفتاة التي جمال عيونها جعلنا نصل للقمة السماء ؟ آ هي التي استدرجته لسريرها وما أبت إلا لطريقة الرذيلة طريق؟ 000 أم هي رغبة السيد التي فرضت نفسها؟ آ هو الكفر الذي دفع بأشجع الشباب للانتفاض ؟ أم هو الذل الذي ساد وعد من الأسياد؟ وهل يعتبر الحب فسقا ودربا من دروب الشيطان؟ ام هو شعور يقود إلى النور و يجعلك روحا تحلق في السماء وهل كانت هذه المحاكمة عادلة ؟ وهل هناك معايير و عناصر للضمان سيرورة محاكمة عادلة وحُكم مقنع ؟ وهل هناك مساواة بين الأفراد داخل نفس المجتمع؟ بقلم