بعد أن أفلس وفشل القوميون والبعثيون والعلمانيون واليساريون والليبراليون في قيادة العالم العربي والإسلامي، جاء "الربيع العربي" ليمنح الإسلاميين فرصة ممارسة السلطة وتدبير الدولة، وهو "الحلم" الذي راودهم منذ زمن بعيد. صحيح أن الإسلاميين قدموا في السابق نماذج في الوصول إلى الحكم وممارسة السلطة، مرة عن طريق "الجهاد" كما فعلت حركة طالبان التي عَرّضت أفغانستان لويلات التخلف والاحتلال وعدم الاستقرار، وهي تجربة تتكرر اليوم في بيئة مشابهة لأفغانستان بشمال مالي، حيث يسيطر على المنطقة منذ ستة أشهر أنصار القاعدة وحركة التوحيد والجهاد الذين بدأوا عملية "تطبيق الشريعة" بهدم الأضرحة والمآثر التاريخية وتنفيذ الحدود. الإسلاميون وصلوا إلى السلطة بالانقلاب العسكري أيضاً، كما فعلت الجبهة الإسلامية القومية في السودان في أواخر الثمانينات. الغريب في هذه الحالة أن مفكرا وسياسيا كبيرا من حجم حسن الترابي ( وهو لمن لا يعرفه مُنظر "الإخوان" في بلاد السودان )، استحل التحالف مع العسكر والانقلاب على حكومة منتخبة، هذا علما أن حزبه شارك في الانتخابات، وكان هو شخصيا عضوا في الحكومة قبل أن ينسحب على عجل ويتفق مع عمر البشير على الاستيلاء على السلطة بالقوة! لكن شهر العسل بين "الإخوان" لم يعمر طويلا، إذ ما لبث أن ألقى "الأخ" عمر البشير بِ"الأخ" حسن الترابي في السجن. وكل ما تحقق من هذه التجربة التي عمرت ما يقرب من ربع قرن هو انفصال جنوب السودان عن شماله، وتدحرج موقع السودان في سلم التنمية البشرية نحو الأسفل، حيث يجاور في التقرير الأخير لبرنامج الأممالمتحدة للتنمية بلدانا منكوبة مثل أفغانستان ورواندا. على ضوء هذه التجارب قد يقول قائل ما الفارق بين الإسلامي وبين سابقيه من علماني وقومي واشتراكي...؟ فالكل قليل الكفاءة، مهووس بالسلطة، فاشل في مسعاه. وقد يتابع تحليله للأمر بالقول أن الثقافة السائدة ثقافة مشتركة بينهم جميعا، أما الشعارات المرفوعة فمجرد تفاصيل. مهما يكن فالجديد الذي أتى به "الربيع العربي" هو أن الإسلاميين وصلوا إلى السلطة هذه المرة بإرادة شعبية وبعد انتخابات ديموقراطية. "الإخوان المسلمون" في مصر، وحزب "النهضة" في تونس، وحزب "العدالة والتنمية" في المغرب. قد يكون هناك اختلاف أو تفاوت بين هذه التجارب الثلاث بحكم الظروف والشروط الموضوعية الخاصة بكل بلد، لكن تبقى في العمق الكثير من القواسم المشتركة. ليس سرا أن حزب "الحرية والعدالة" الإخواني في مصر، وحزب "النهضة" التونسي، وحزب "العدالة والتنمية" المغربي لا يملكون لا خبرة ولا برامج لتدبير شؤون الدولة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية، وهم بذلك مايزالون في مرحلة استكشاف واقع الأشياء، والتعرف على إكراهات التدبير وصعوبات المهام. ولا شك أنهم يصطدمون بالفارق بين التصورات النظرية والشعارات التي رفعوها بالأمس وبين شروط ومقتضيات الواقع اليوم. من الطبيعي أن تؤدي هذه الصدمة إلى الارتباك وإلى ارتكاب بعض الأخطاء، لكن بشرط أن لا تتعدى الأمور حدود المعقول. يخطئ الإسلاميون إن ظنوا أن تصويت الشعب لصالحهم قد منحهم شيكا على بياض، وأنهم بعد أن صعدوا إلى كرسي السلطة، فهو لهم إلى آخر الزمان. سيكون الشعب كريما جداً مع الإسلاميين لو أنه تغاضى لبعض الوقت عن قلة حيلتهم في السياسة والاقتصاد والتدبير، وسمح لهم بأن يكسبوا بعض الخبرة لإيجاد حلول لقضاياهم. في مصر قررت أكثر من 25 هيئة من أحزاب ونقابات وحركات أخرى التظاهر مجتمعة تحت شعار "مصر مش عزبة...مصر لكل المصريين"، وذلك لمواجهة محاولات جماعة "الإخوان المسلمين" السيطرة على الدولة وكتابة دستور جديد على المقاس. جاءت هذه المبادرة كتحدٍ بعد تظاهرة مماثلة جرت قبل أيام في ميدان التحرير، حين قام الإخوان بكل تهور بحشد مسيرة مضادة في نفس المكان، ما أدى إلى مواجهات وأعمال عنف وضحايا. هذه الواقعة تكشف أمرين هامين. الأول أن حركة "الإخوان المسلمين" في مصر تحاول تأميم الثورة لصالحها وتسعى لفرض الوصاية على الشعب المصري ومصادرة الحريات. وهذا خطأ كبير. الأمر الثاني، أن الشعب المصري صار يمتلك من الوعي واليقظة ما يجعله ينتفض ضد كل محاولة للمس بحريته وحقوقه. أمر جلي أن كفاءة حركة "الإخوان المسلمين" في تدبير السياسة والاقتصاد محدودة، وستكون الحركة محظوظة جداً لو أن الشعب المصري صبر دهرا آخر حتى تتعلم وتكتسب الكفاءة اللازمة، لكن أن تجرأ على محاولة احتكار الحكم وممارسة الوصاية على الناس باسم الدين فذلك من علامات التهور وقلة الحكمة. عرفت الحركات الإسلامية منذ نشأتها بعض التطور الفكري، وإن بدرجات متفاوتة. فالانتقال من مرحلة تعتمد فيها على العنف كأداة للتغيير إلى مرحلة تؤمن فيها بالديمقراطية والانتخابات خطوة هامة. لكن الطريق مايزال طويلا لتحقيق مراجعة فكرية عميقة تسمح بالاستجابة لمتطلبات العصر دون التفريط في التراث والقيم الدينية الأصيلة. من حق الإسلاميين المشاركة في الانتخابات والعمل السياسي، كما لهم حقوق اجتماعية واقتصادية كسائر المواطنين. المشكل أن الكثير من الإسلاميين يعتقدون أن السعي إلى الحكم امتداد طبيعي للعمل في مجال الدعوة، وأن من امتلك الكفاءة في الدعوة إلى الدين، قد امتلك الكفاءة لتدبير الدولة وشؤون الحكم. الإدارة والسياسة والاقتصاد والتدبير في عصرنا إنما هي علوم ومعرفة وخبرة، واكتساب بعض الكفاءة فيها يحتاج إلى سنين طويلة من الكد والتعلم والاجتهاد. قضية أخرى هي أن كثيرا من الإسلاميين (والمسلمين عموما) يمارسون الوصاية على الدين. فإذا كان الطب النفسي يعرف انفصام الشخصية على أنه تعايش شخصيتين مختلفتين في نفس الإنسان، فالبعض يعيش حالة معكوسة، فيظن أنه هو والدين شيء واحد! حتى أنه يظن يقينا أو في لاوعيه أن أي نقد أو عتاب يوجه إليه إنما هو جرأة زائدة و حتى "مساس" بالدين. العقل المسلم يصعب عليه التمييز بين المقدس من الدين وبين الفرد الذي ليس لرأيه أو عمله أية قداسة. هذه بعض من قناعات كثيرة تستحق التأني والمراجعة. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو : هل يفلح الإسلاميون في تدارك الأمر وتصحيح الوجهة قبل فوات الأوان أم أنهم سيكررون تجارب فاشلة سَبِقهم إليها آخرون؟