يبدو تاريخ العلاقات بين الجيش والإسلاميين تاريخا ملتبسا، فقد حرصت المؤسسة العسكرية في بعض البلدان العربية على طلب خدمات الإسلاميين وهي تسعى إلى الاستيلاء على السلطة السياسية، ولم يبخل الإسلاميون بتقديم تلك الخدمات في محاولة منهم للتطبيع مع الأنظمة الجديدة، غير أن تلك الأنظمة سرعان ما تنقلب عليهم وتروم استئصالهم. ولعل تاريخ تلك العلاقات في ثلاث تجارب عاشتها مصر وتونس والسودان شاهد على هذا الالتباس . ففي مصر، استولى الضباط الأحرار على السلطة في 23 يوليوز 1952، وشكلوا مجلسا لقيادة الثورة وعينوا وصيا على الملك «الصبي» أحمد فؤاد. وبعد مرور سنة، وبالضبط في 23 يوليوز 1953، أعلنوا إلغاء الملكية وقيام النظام الجمهوري برئاسة محمد نجيب. كان عبد الناصر هو المتحكم في خيوط اللعبة السياسية منذ 23 يوليوز 1952، وكانت تصوراته ترتكز على ثلاثة مقومات: اقتصاديا: العمل بسياسة التأميم، وإيديولوجيا: رفع شعار الوحدة العربية، وسياسيا: إقامة نظام الحزب الوحيد. كان العائق أمام عبد الناصر لتطبيق تصوراته في هذه المرحلة متمثلا في قوتين أساسيتين: حزب الوفد والإخوان المسلمون. وفضل عبد الناصر انتهاج سلوك تدريجي في مواجهة القوتين، حيث عمل في البداية على مواجهة حزب الوفد. وتجسدت هذه المواجهة في إقدامه على إلغاء الأحزاب السياسية سنة 1953. وكان المستهدف من هذا الإجراء بالدرجة الأولى هو حزب الوفد، واستثنيت جماعة الإخوان المسلمين. بعد تصفية حزب الوفد، كرس عبد الناصر جهوده لمواجهة الإخوان، وذلك عبر مرحلتين: المرحلة الأولى، كانت المواجهة خلالها غير مباشرة، وذلك بالعمل على إحداث انقسامات داخل الجماعة للحد من قوتها، وهذا ما حدث فعلا، وذلك بقبول أحد قادة الجماعة بالمشاركة في الحكومة كوزير للأوقاف رغم عدم موافقتها، مما دفعها إلى فصله وهو الشيخ أحمد الباقوري، أو بالضغط على القيادة الإخوانية لفصل بعض عناصرها غير المرغوب فيهم من قبل السلطة، كفصل صالح عشماوي سنة 1953. المرحلة الثانية، كانت المواجهة خلالها مباشرة، وتم التمهيد لذلك بنزع الشرعية عن الجماعة، وهكذا لم يتردد عبد الناصر، بتاريخ 12 يناير 1954، في إصدار قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها حزبا سياسيا يسري عليه قرار إلغاء الأحزاب الصادر سنة 1953. ورغم أن عبد الناصر تراجع عن قرار الحل في الشهر الموالي، لأن موازين القوى كانت آنذاك في غير صالحه، فإنه قد خطط بإحكام للمواجهة المفتوحة مع الجماعة في بداية أكتوبر 1954 تحت غطاء حادث «المنشية»، الذي انتهت ملابساته بإعدام ستة من الإخوان واعتقال ومحاكمة ألف «إخواني»، على رأسهم المرشد العام للجماعة الذي حكم عليه في البداية بالإعدام، وتم تحويله بعد ذلك إلى السجن المؤبد. إن التناقض بين الخط «الناصري» والخط «الإخواني» كان تناقضا بنيويا، وهذا ما يفسر عداء «الناصرية» الشديد للإخوان، فإضافة إلى محاكمات 1954، تمت تصفية مجموعة من أطر الجماعة داخل السجن سنة 1957. في تونس ورغم موجة القمع التي طالت «حركة الاتجاه الإسلامي»، لعبت الأخيرة دورا مركزيا في إزاحة «بورقيبة» يوم 7 نونبر 1987، حيث خلفه العسكري «زين العابدين بن علي»، وقد رحبت «الحركة» بالنظام الجديد من خلال بيان صادر في نفس اليوم. لقد أبدت «حركة الاتجاه الإسلامي» رغبتها في الحصول على الشرعية التي لوح بها النظام الجديد تجاهها، وكان من بين تجليات هذه الرغبة بلورة خطاب جديد أكثر «استيعابا» لمعطيات الواقع التونسي. وبخلاف ما كان يصرح به راشد الغنوشي سنة 1984، صرح بعد إزاحة «بورقيبة» بأن القانون المانع لتعدد الزوجات هو أحد تعبيرات الاجتهاد والتأويلات المشروعة للنصوص المقدسة، بل إن «حركة الاتجاه الإسلامي» شاركت، من خلال أحد ممثليها، في بلورة الميثاق الوطني الذي يجعل من مجلة الأحوال الشخصية «البورقيبية» أحد أسس الجمهورية التونسية. وفي سياق البحث عن الشرعية أيضا، استبدلت «الحركة» اسمها باسم جديد هو «حزب النهضة»، وتسلم «عبد الفتاح مورو» في فبراير 1989 وصلا مؤقتا من مصالح وزارة الداخلية. وكان الكل يعتقد أن العلاقات قد تم تطبيعها بشكل نهائي بين السلطة والإسلاميين، غير أن هذا الاعتقاد كان في غير محله، فاحتفالا بالذكرى الثانية لإزاحة «بورقيبة»، ألقى «زين العابدين بن علي» خطابا، يوم 7 نونبر 1989، أعلن من خلاله رفضه القاطع لقيام «حزب النهضة» باعتباره حزبا «دينيا»، رغم أن «عبد الفتاح مورو» أجاب الرئيس بأن «حزب النهضة» حزب سياسي وليس حزبا دينيا. أما في السودان، فإن الجبهة القومية الإسلامية ترجع بأصولها إلى التيار الإخواني، فبين تأسيس أول لجنة للإخوان المسلمين في السودان سنة 1944 وانعقاد مؤتمر «العيد» في غشت 1954، كانت الجماعة تتأرجح بين تيارين: تيار يعتبر الجماعة فرعا تابعا لجماعة الإخوان في مصر، وتيار يطالب بالتميز عن جماعة الإخوان المصرية. وقد تم حسم هذا التأرجح في 21 غشت 1954 بانعقاد مؤتمر «العيد» الذي اتخذ مجموعة من الإجراءات منها: اختيار اسم «الإخوان المسلمين» وعدم ارتباط الدعوة بالأحزاب السياسية، وتبني علنية الدعوة، وتبني قضية الدستور. وكان من بين أهم القرارات كذلك إعفاء علي طالب الله باعتباره ممثلا للتيار المنادي بالتبعية لإخوان مصر. تمحور نشاط جماعة الإخوان المسلمين السودانية عقب مؤتمر «العيد»، إلى حدود قيام انقلاب إبراهيم عبود سنة 1958، حول المطالبة بالدستور الإسلامي، وعملت الجماعة، فعلا، على تأسيس الجبهة الإسلامية للدستور. خلال الحكم العسكري الأول (19581964)، جمدت الجماعة نشاطها. وحين عاد الحكم المدني عقب ثورة أكتوبر 1964، بادر حسن الترابي إلى تأسيس «جبهة الميثاق الإسلامي» التي شاركت في حكومات التجربة المدنية الثانية إلى غاية شهر مايو 1969، تاريخ قيام النظام العسكري الثاني بقيادة جعفر النميري. لم تستمر معارضة الإخوان المسلمين للنميري طويلا، إذ سرعان ما شاركوا في مؤتمر المصالحة سنة 1975 وساندوا الحكم العسكري. ولقد كان لقرار المصالحة تأثير سلبي على وحدة الجماعة، حيث رفض الصادق عبد الماجد هذا القرار وقاد عملية انشقاق، فانقسمت الجماعة إلى مجموعتين: الاتجاه الإسلامي بقيادة حسن الترابي، والإخوان المسلمون بقيادة الصادق عبد الماجد. تحالف جناح حسن الترابي مع نظام النميري، واحتل أعضاؤه مراتب هامة في مجلس الشعب القومي سنة 1981 أو في تسيير الشؤون العامة. وكان هذا الجناح وراء العديد من القرارات التي اتخذها النميري أواخر حكمه، كإعلان حالة الطوارئ وقرار تطبيق أحكام الشريعة في شتنبر 1983، كما كان وراء إعدام محمد محمود طه، شيخ الإخوان الجمهوريين. ولكن حين استشعر النميري سلبية قراراته، انقلب على جناح الترابي أواخر فبراير 1985. حين سقط نظام جعفر النميري، وتكسيرا للطوق الذي فرضته قوى التجمع الوطني لإنقاذ الوطن على جناح حسن الترابي، سارع هذا الأخير في مايو 1985 إلى عقد المؤتمر التأسيسي للجبهة القومية الإسلامية التي دعت إلى: مراجعة قوانين الشريعة وإكمالها بدل إلغائها ونسخها ومراعاة الواقع «التعددي» للسودان. إن مراعاة «التعددية» تجلت في المؤتمر الثاني للجبهة المنعقد في يناير 1988، حيث روعي تمثيل جميع الأقاليم، بما في ذلك الجنوب. وقد جسدت تركيبة المكتب السياسي للجبهة هذا التصور الجديد. إن واقع «التعددية»، الذي يخترق المجتمع السوداني، ستجسده الجبهة القومية الإسلامية في ميثاقها الذي دعا إلى: الحكم الفيدرالي، وعدم حرمان أي مواطن من وظيفته بسبب العقيدة أو الدين أو التوجه السياسي، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المناطق ذات الأغلبية المسلمة فقط، ولا يخضع لأحكامها غير المسلم، بل إن الجبهة القومية الإسلامية ذهبت بعيدا في دستورها حين فتحت باب العضوية فيها لغير المسلمين. يندرج تأسيس الجبهة القومية الإسلامية في لحظة نجاح نقل الحركة الإسلامية من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة المبادرة. وإذا كانت الخمينية قد وصلت إلى السلطة عن طريق «ثورة»، فإن الجبهة ستعمل على الوصول إلى السلطة عبر اعتماد تكتيك الانقلاب من داخل المؤسسات، وهو ما تجسد فعلا من خلال انقلاب عمر البشير بتاريخ 30 يونيو 1989، غير أن مراهنة الترابي على الجيش لم تكن في محلها، فكما سعى جمال عبد الناصر إلى استئصال جماعة الإخوان المسلمين في مصر وكما ذهب بعيدا زين العابدين بن علي في استئصال حركة الاتجاه الإسلامي، فإن حسن عمر البشير في السودان لم يبتعد كثيرا عن نهج سابقيه.