الدكتور عبد الرزاق السنهوري «1895-1971» من أهم فقهاء القانون في تاريخ مصر والعالم العربي، هو الذي وضع الدستور والقانون المدني لبلاد عربية كثيرة، منها ليبيا والعراق والسودان والكويت وسوريا والإمارات العربية المتحدة. هذا الرجل العظيم ارتكب، منذ ستين عاما، خطأ جسيما مازلنا ندفع ثمنه حتى اليوم، فقد اشتهر السنهوري بخصومته الشديدة للوفد، حزب الأغلبية آنذاك. في عام 1952، قام الضباط الأحرار بانقلاب عسكري «تحول فيما بعد إلى ثورة عندما أيدها الشعب»، وأجبر الضباط الملك فاروق على التنازل عن العرش لابنه الأمير الطفل أحمد فؤاد، مما استوجب تشكيل مجلس الوصاية، وطبقا لدستور 1923 كان يتوجب على مجلس الوصاية أن يؤدي القسم أمام البرلمان ذي الأغلبية الوفدية.. كان «عبد الناصر»، في رأيي، زعيما مخلصا عظيما، لكنه أيضا أول من أسس للحكم العسكري في مصر. ولأنه كان يدرك شعبية الوفد الطاغية ويخشاها فقد لجأ إلى السنهوري، الذي كان رئيسا لمجلس الدولة، ليستشيره. كان السنهوري يكره الوفد إلى درجة أعمته عن أي اعتبار آخر، ولذلك فقد وجد مخرجا قانونيا تمكن به عبد الناصر من استبعاد الوفد، ثم سرعان ما أصدر عبد الناصر قرارا بحل الأحزاب جميعا وإلغاء النظام النيابي نفسه.. عندئذ، أدرك السنهوري خطأه، وهو أنه عندما استبعد حزب الوفد ساهم، بغير قصد، في تقويض النظام الديمقراطي ذاته. حاول السنهوري استدراك الخطأ وراح يعارض عبد الناصر ويدافع عن الديمقراطية ويطالب بعودة الجيش إلى الثكنات، لكن وقت إصلاح الخطأ كان قد فات، فقد ضاق الضباط الأحرار بمعارضة السنهوري لهم فأرسلوا إليه متظاهرين مأجورين قاموا بالاعتداء عليه بالضرب المبرح في مكتبه، ثم اتخذ مجلس قيادة الثورة قرارا بإلغاء مجلس الدولة من أساسه.. وقد أثرت هذه المعاملة المهينة في السنهوري وعاش حزينا حتى وفاته عام 1971.. هذه الواقعة لها مغزى: إن خصومتنا السياسية مع أي حزب أو جماعة لا يجب أبدا أن تعمينا عن الحقيقة. يجب أن ندافع عن مبادئنا حتى لو استفاد من تحقيقها ألد خصومنا السياسيين. في مصر الآن صراع على أشده بين نظام مبارك، الذي لا يزال مسيطرا على الدولة، والدكتور محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب. المشكلة أن هذا الرئيس ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، مما يجعل الكثيرين يناصبونه العداء قبل أن يفعل أي شيء ويعترضون على كلامه قبل أن ينطق.. كنت ومازلت أعارض الإخوان المسلمين نظريا وعمليا.. نظريا، لأنهم يؤمنون بالخلافة الإسلامية، وأنا أعتبرها نظاما استبداديا فاشيا أدى إلى سقوط مصر في قبضة الاحتلال العثماني؛ كما أعارضهم لأنهم يعتقدون أن الإسلام دين ودولة، بينما أعتقد أن الإسلام لم يقدم نظاما محددا للحكم وإنما قدم مبادئ عامة وترك للمسلمين اختيار النظام السياسي الذي يحققها. وعلى المستوى العملي، أعارض سياسة الإخوان التي لا ترى الفرق بين مصلحة الجماعة ومصلحة الوطن، مما أوقعهم في مواقف انتهازية كثيرة تحالفوا فيها مع السلطة المستبدة ضد إرادة الشعب، وأقرب مثال على ذلك تخلى الإخوان عن الثورة وتحالفهم مع المجلس العسكري، الأمر الذي ضيع على مصر فرصة كتابة الدستور أولا وأوقعنا في هذا المأزق الذي نعيشه.. أما السلفيون فأنا أعارضهم لأنهم يحملون القراءة الوهابية السعودية للإسلام المناقضة للقراءة المصرية المعتدلة، كما أرفض تشدد بعض السلفيين وضيق أفقهم ومواقفهم المعادية للحريات وحقوق المرأة والفن والأدب.. علاقتي بالإخوان والسلفيين، إذن، لم تكن قط على ما يرام، بل إن بعض المنتسبين إلى التيار السلفي هاجموا عيادتي الخاصة مرتين وحاولوا الاعتداء عليّ عقابا لي على آرائي، فتقدمت ببلاغات ضدهم وأحيلوا على المحاكمة والقضية لا تزال منظورة.. هذه الخصومة العنيفة مع تيار الإسلام السياسي لا يجوز أبدا أن تمنعني من تأييدهم إذا أصابوا أو من مساندتهم إذا خاضوا معركة مشروعة وطنية. إن الصراع الآن بين طرفين: رئيس منتخب بإرادة الشعب ومجلس عسكري يفرض إرادته علينا بقوة الدبابة. هذا الصراع يشكل جوهر الثورة المصرية التي قامت بالأساس من أجل إنهاء الحكم العسكري وإعادة السلطة إلى الشعب، صاحبها الشرعي. إن شعارات الثورة العظيمة «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية» يستحيل أن تتحقق إلا إذا استرد الشعب سيادته على بلاده.. إن الرئيس مرسي يواجه الآن نظام مبارك بكل قدراته وطاقاته. هذا النظام له مؤسسات رسمية معلنة وله تنظيم سري بمعنى الكلمة، متغلغل في كل مفاصل الدولة المصرية. هذا التنظيم السري «الذي يسمى أحيانا بالدولة العميقة» هو المحرك الرئيس للأحداث في مصر منذ سقوط مبارك. إن نظام مبارك يعمل وفقا للمعادلة الآتية: «لقد ثار المصريون ضد أوضاع ظالمة؛ فلو أنهم وجدوا أنفسهم في أوضاع أسوأ بكثير من التي ثاروا ضدها، يمكن عندئذ إعادة النظام القديم في شكل جديد».. هذه المعادلة تم تحقيقها بعشرات الوقائع التي دبرها نظام مبارك، بدءا من القبطي الذي أذاعوا أن السلفيين قطعوا أذنه، إلى إحراق الكنائس بواسطة بلطجية مأجورين بعد انسحاب أفراد الشرطة المدنية والعسكرية، إلى تشويه سمعة الثوريين بكل وسيلة، إلى اصطناع أزمات مستمرة في كل مواد المعيشة.. هدف الخطة أن يكفر المصريون بالثورة ويعانوا من تدهور أوضاع المعيشة، ثم يتم تقديم مرشح النظام القديم باعتباره البطل المخلص الذي سيستعيد الأمن ويرفع المعاناة عن المصريين. حاول نظام مبارك ترشيح عمر سليمان لأداء هذا الدور، لكن المعارضة الشعبية كانت من القوة بحيث اضطروا إلى سحبه بعد أيام ثم تقدموا بأحمد شفيق وسانده نظام مبارك بكل قوته: انفتحت خزائن رجال الأعمال الموالين لمبارك وأغدقوا الملايين واحتشد حول شفيق لواءات الداخلية وأقطاب الحزب الوطني وضباط أمن الدولة وإعلاميون مخبرون تربوا في أروقة وزارة الداخلية، بالإضافة إلى أربعة ملايين اسم تمت إضافتها إلى الكشوف الانتخابية صوتت جميعا لشفيق، أضف إلى ذلك مثقفين انتهازيين تأكدوا من أن شفيق قادم فقفزوا بسرعة من مركب الثورة وأعلنوا تأييدهم له. كما أن ملايين المصريين نزلوا وصوتوا لمرسي، ليس حبا فيه وإنما من أجل إسقاط شفيق، ممثل النظام القديم. وبالرغم من أن فوز مرسي تأكد من البداية، فقد تأجل إعلان النتيجة لمدة أسبوع. وهناك مؤشرات على أن النية كانت متجهة إلى تغيير النتيجة لصالح شفيق «تعرض قناة «الفراعين» وثيقة صادرة من اللجنة العليا للانتخابات تفيد بفوز شفيق على مرسي. والغريب أن القضاة الموقعين عليها لم يتقدموا ببلاغ ضد القناة».. تراجع نظام مبارك عن تغيير النتيجة وانسحب مؤقتا أمام الرئيس المنتخب، وفي الوقت نفسه أصدر المجلس العسكري إعلانا دستوريا غير شرعي اغتصب به صلاحيات رئيس الجمهورية، ثم دارت الماكينة الجبارة لنظام مبارك من أجل إفشال الرئيس المنتخب وتشويه سمعته حتى قبل أن يبدأ ولايته. نفس الطريقة القديمة: انفلات أمني متزايد يحدث أمام أعين رجال الشرطة وجنود الشرطة العسكرية، فلا يتدخلون أبدا لحماية الأبرياء. ثم تتابعت وقائع الاعتداء على المواطنين من متطرفين إسلاميين. بعض هذه الوقائع حقيقي وبعضها أصابع الأمن واضحة فيه، لكنها في كل الأحوال تجري أمام أعين رجال الأمن فلا يتدخلون أبدا لحماية الناس، ثم يتم تضخيمها في وسائل الإعلام من أجل ترويع المواطنين. ألا يجب هنا أن ننسى علاقة أمن الدولة ببعض الجماعات المتطرفة التي اعترف بها الإسلاميون أنفسهم «ذكر المتحدث باسم حزب النور، نادر بكار، أربعة مشايخ مشهورين بالاسم وأكد أنهم عملاء لأمن الدولة».. ما حقيقة جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تبرأت منها كل الأحزاب والجماعات الدينية، ولماذا تظهر وتختفي دائما وفقا للظروف السياسية؟! إن قراءة بيانات هذه الجماعة الغامضة تكشف أن غرضها الأول الترويع، فهي تتحدث عن دوريات راكبة ليلية ونهارية وعصي خيزرانية وصواعق كهربائية وأسلحة نارية.. لماذا لا يتابع المسؤولون في الداخلية موقع هذه الجماعة على الأنترنيت فيتم القبض على أعضائها خلال ساعات؟! الإجابة أن نظام مبارك مستمر في ترويع المصريين حتى تحين الخطوة التالية: يوم الاثنين، صرحت مستشارة مقربة من المجلس العسكري بأن الرئيس مرسي يجب أن يستقيل بمجرد كتابة الدستور.. هكذا يتضح المخطط. سوف تستمر عمليات الترويع للمواطنين ويستمر تشويه الرئيس المنتخب حتى يجبره المجلس العسكري على الاستقالة بعد كتابة الدستور، فيحس المواطنون عندئذ براحة عميقة لأن شر الإخوان قد زال عنهم، ثم تعاد الانتخابات ويحتشد نظام مبارك وراء مرشح قد يكون شفيق أو عمر سليمان أو أي عضو في المؤسسة العسكرية.. هنا يجب أن نرتب أولوياتنا بطريقة صحيحة. بعض المصريين تحولت خصومتهم السياسية للإخوان إلى عداء شديد، يعميهم عن الحقيقة ويدفع بهم إلى الموافقة على الحكم العسكري نكاية في الإخوان، تماما كما وقف السنهوري مع الضباط الأحرار ضد الوفد ثم ندم بشدة عندما سقط النظام الديمقراطي كله.. من ناحية أخرى، فإن بعض المتشددين الإسلاميين عاجزون عن فهم ما يحدث، وهم يسعون إلى فرض أفكارهم المتزمتة عنوة فيساعدون، بغير قصد، نظام مبارك في صراعه الباطل ضد الرئيس المنتخب. يجب أن ندافع عن مبادئ الديمقراطية وأهداف الثورة بغض النظر عمن يستفيد منها. عندما نرفض سيطرة المجلس العسكري على الحكم ونطالب بصلاحيات كاملة لرئيس الجمهورية فنحن لا نفعل ذلك من أجل محمد مرسي ولا من أجل الإخوان، ولكن من أجل الثورة ومن أجل مصر.. إن معركتنا الرئيسية الآن مع نظام مبارك الذي يكافح باستماتة من أجل إجهاض الثورة واستعادة الحكم كاملا.. إذا كان الاختيار بين سلطة العسكر وسلطة الشعب فإن واجبنا قطعا أن نساند الرئيس المنتخب حتى ولو كنا من أشد المعارضين له سياسيا.. على أن دعمنا للرئيس ليس مطلقا وإنما محدد بشروط: إذا أثبت أنه، فعلا، رئيس للمصريين جميعا وإذا نفذ وعوده وخاض معركة من أجل القضاء على نظام مبارك وإعادة السلطة إلى الشعب، فإن واجبنا مساندته بقوة، أما إذا تغلب انتماؤه إلى الإخوان على إخلاصه للشعب ودخل في صفقات رخيصة من أجل مصالح الإخوان فسوف نتخلى عنه كما تخلى عن الثورة.. عندئذ، سيكون قدر الثورة أن تواجه العسكر والإخوان معا. وفي كل الأحوال، سوف تنتصر الثورة حتما بإذن الله، وتحقق أهدافها لتبدأ مصر المستقبل الذي تستحقه. الديمقراطية هي الحل.