يحلق باستمرار في سماء الحرية. لا تأسره الأقفاص، لا يكاد يحط حتى يعاود الطيران. حتى المرض يقاومه بكثير من العزة والكبرياء. هذه حكاية مفكر استثنائي له أكثر من رواية مع دار المخزن. رفعت صوره عاليا في عز الحراك الاجتماعي في مسيرات 20 فبراير كعالم مستقبلي ظل عالقا في أذهان الكثير من المغاربة، وقد منعت محاضراته في الجامعة وفي الكثير من القاعات العمومية، دون أن يعرف السبب. بينما كان الشاب المهدي ذو الخمسة عشر ربيعا يستمتع بوقته في مسبح بمدينة إفران، اقترب كلب من أحد الفرنسيين الذي قال بصوت مسموع: «إذا كان هناك عرب يسبحون فلم يمنع ذلك على الكلاب»، يومها لم يتمالك المهدي المنجرة نفسه فانقض على ذلك الرجل ولكمه ليقضي أياما رهن الاحتجاز وهو لا يزال بعد طفلا، وهذا ما أقنع والده بضرورة إرساله إلى أمريكا لمتابعة دراسته. إنها حادثة غريبة كان يحلو له أن يرويها لمن حوله في بداياته، لأنها كانت وراء التحاقه بالديار الأمريكية في نهاية أربعينات القرن الماضي لمتابعة دراسته سنة 1948، وكانت فاصلا في مسار حياته وشخصيته. فهناك سيحصل على الإجازة من جامعة كورنيل بنيويورك في البيولوجيا، وسرعان ما سيغير المجال ليتجه صوب العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حيث سيحضر أطروحة لنيل الدكتوراه في موضوع الجامعة العربية، وبذلك نال شهادة الدكتوراه من جامعة لندن للاقتصاد (1954-1957). بعد تخرجه من لندن عاد إلى المغرب حيث اشتغل في كلية الحقوق أكدال أستاذا للعلاقات الدولية، وكان أول أستاذ جامعي في المغرب يحصل على هذه الصفة. وبعد سنة قضاها في كلية الحقوق أكدال، التحق بالإذاعة والتلفزيون كمدير عام خلفا للراحل قاسم الزهيري. وارتباطا بمجال الجامعة والبحث العلمي، اقترح آنذاك على الحسن الثاني أن يكون على رأس هيئة تهتم بتدبير الجامعة المغربية مع تمتعها باستقلال مادي وإداري، إلا أن طلبه قوبل بالرفض. لن يعمر طويلا في الإذاعة وسرعان ما سيستقيل بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، فالمهدي المنجرة -كما سبق أن وضح- لم يستسغ الطريقة المذلة التي تم بها إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم الحائزة لشرعية شعبية (من طرف الحسن الثاني وصديقه أحمد رضا اكَديرة). بعد هذه الأحداث العصيبة وما تلاها من إعلان حالة الاستثناء في المغرب، غادر المنجرة المغرب صوب أمريكا، حيث يقول «وبهذا أكون قد أمضيت معظم عمري طائرا»، إذ شغل منصب نائب المدير العام لليونسكو آنذاك "روني ماهو"، كما شغل قبل ذلك منصب أول مستشار للبعثة الدائمة للمغرب لدى الأممالمتحدة. ومن هذا المنبر قدم استشارات للحكومة المغربية في مجالات التخطيط والتعليم واستشراف المستقبل، والتي يبدو من الواضح أنها لم تؤخذ على محمل الجد وقتها.