نحن نعيش الآن بالمباشر ومن على الشرفات الافتراضية لحظةً تاريخيةً بكل المعاني. كيفما كان الحال: أفيروساً مفبركا تسربَ إلى رئات الناس من غير إرادة مقترفيه، أو وباءً حقيقيا لا يد للمخططات العسكرية فيه، أو فيروسا فتاكا أُطلق قصدا في إطار حرب بيولوجية بين القوى المتنافسة على حكم العالم، وهي كلها افتراضات ستبقى مفتوحة لحكم التاريخ بمعناه الممتد، وكيفما كانت حقيقة تصريحات الحكام عن خطورة الوباء وآثاره المحتملة من وفيات ورحيل مبكر لمن سوف تحصدهُم يد الموت العمياء، وكيفما كانت نوايا الآلة الإعلامية التي تحبس أنفاس ملايير البشر، وتجعلهم مشدودين إلى شاشة واحدة ممتدة على طول الأفق البشري مكتوب عليها بالبنط العريض: « كورونا »، فما نحياه اليوم لا يمكن أن يبقى بدون أثر على ما سوف يأتي من التاريخ… فجأة تنتقل الخرائط من الكراسات إلى رؤوسنا لتملأها، فتتراءى في كل شيء وعلى كل الشاشات فجأة يصبح الأمر متشابها لكل فرد من ملايين ملايين البشر فوق الأرض فجأة يصبح المصير واحدا أوحد… فجأة لم يعد « للخارج » معنى البعد والغياب فجأة يصبح الملك والرئيس والوزير والمدير وسائق التاكسي والمعلم وعامل النظافة سواسية أمام سؤال الموت المحدق الممكن في أي لحظة فجأة نصير جميعا ركاب سفينة واحدة. وندرك أن للحياة قيمة واحدة بالنسبة لنا جميعا ونتساوى في الهم والقلق والمصير فجأة تضيق الأرض بما رحبتْ فحتى محاصرو رواية « الطاعون » كان لهم أمل في الإفلات من مدينة واحدة موبوءة فجأة نتساوى في الهم والقلق ومساءلة المصير فجأة نتساءل جماعيا وفرديا وثنائيا هل من سبيل مضمون للنجاة فجأة نفكر في حبيب مرتجى أو حبيب قديم فقدناه منذ زمن في غفلة من قلبنا أو اِبن بعيدٍ يكمل دراسةً عليا أو ابنةٍ قادها الحب إلى المنفى الاختياري فجأة نفكر هل لدينا ما نأكله غدا؟ فجأة يصبح « للخارج » معنى آخر و »للداخل » معنى آخر ولا يعود هناك ما بينهما فجأة أحدق في المسافر قبالتي في مقصورة القطار وأتساءل من سيبدأ بالسعال، هو أم أنا؟ فجأة لا يعود للألقاب والأسماء والاعتبارات والبروتوكولات معنى يبررها في الكلام فجأة نتمدد في فراش النوم وكل يفكر في وجه الغد القريب فجأة لم يعد من ملجأٍ إلا للقاح المرتجى فجأة لا يحمينا لا لون ولا لغة ولا إيمان ولا منصب ولا موقع ولا اعتبار فجأة نتذكر أننا حقيقةً متساوون أمام العدم وألم الفراق فجأة لم يعد « اللوفر » ولا « السان-ميشال » على مرمى جناح ولا قصر الحمراء وجنة العريف على مرمى موجة متوسطية هانئة فجأة صار لزاما على كبار القوم أن يطلبوا الشفاء والسلامة الجسدية والنفسية على هذه الضفة بيننا لا على تلك فجأة يداهمنا الشعور بأن لنا أمنياتٍ مؤجلةً يجب أن نحققها قبل فوات الأوان فجأة نشعر في نفس اللحظة وعلى امتداد الخرائط والجغرافيات والبلدان أننا فانون، وأننا لسنا سوى حلقة في سلسلة الحياة التي تحيا بنا وتستمر، ثم تتجاوزنا من حيث نتوهم أننا بها نحيا فجأة نتواضع أمام ضعفنا الجماعي ويصبح لكلمة « عاجل » على الشاشة معنى شديد الاكتمال فجأة يُسقط في أيدينا ويتهاوى كذب الرُّقاة وادعاءات الرواة وكتَّاب الحجابات فجأة نصبح نحن هم نحن ولسنا آخرين فجأة نكتشف أن مأوانا المرتجى هربا من الموت هو مأوانا المعتاد للحياة فجأة تصبح فضاءات يقين الحياة هي فضاءات احتمال الموت فجأة نقف في الفراغ عرايا أمام أنفسنا. وننظر من خلال بعضنا البعض إلى مخاوفنا المستدامة وأحلامنا المؤجلة فجأة نهفو إلى أن نعانق حبيبا ونضع رأسا متعبا على صدره أملا في أن يهدئ من روعنا أمام خطر لا نعرف له إلا الاسم التاجي المستجد المستبد فجأة ونحن نقف على خطر الاقتراب من بعضنا نكتشف قيمة اللمسة وقيمة استكانة يد في يد حبيبة وقيمة اللثمة على الجبين وقيمة الضمة إلى الصدر وقيمة العناق الطويل وقيمة القبلة على الوجنتين وقيمتها على الشفتين فجأة نكتشف أن « جائحة » كلمة موجودة في قاموس العربية وأنها تؤدي بالضبط معنى كلمة « جايحة » التي ندعو بها على بعضنا البعض في لحظات الغضب المنفلت فجأة نعود إلى أحجامنا ونكف عن اعتماد المشية المتعجرفة للديك الرومي بحوصلته المنتفخة المضحكة فجأة نكتشف أننا شيء واحد ومصير واحد ونبض واحد مهما تعددت الخرائط والحدود والمصائر والدوائر والأجناس والألقاب والأوضاع والعاقبات فجأة نعيد اكتشاف كلمة « إنسان » فقط لا غير، على جبين كل فرد منا نراها مكتوبة بحروف من نور فجأة يتصاعد داخلنا دفق التضامن والإيمان بالمصير المشترك أينما كنا وحيثما حللنا فجأة لم يعد تعددنا ولا تنوعنا ولا اختلافاتنا مشكلا يتطلب الحل بل حلا يتطلب أن نحياه فجأة نكتشف أننا سلسلة بشرية في الزمان الممتد والمكان المترامي فلتكن إذن سلسلة آدمية يساهم كل واحد منا بدوره كاملا في الحفاظ على الحياة البشرية هذه ليست أشياء للهزل. هو المصير المشترك ليمدَّ كل واحد يده كي تمتد السلسلة على مد المعمور نحن أسرة واحدة وسنتغلب على الوباء أيا كان مصدره طبيعيا أو إجراميا أو عسكريا أحبكم جميعا ولا أستثني منكم أحدا وأرجئ كل تحفظاتي – إن وُجدتْ – على البعض منكم إلى يوم آخر، إلى يوم إعلان الفتك بالوباء حيث نعود إلى انشغالاتنا المعتادة… هل نعود؟ حتما نعود. صلاح الوديع 13 مارس 2020