يحكى أن زوجة جحا جرفتها السيول، فهب الناس لنجدتها وصاروا يبحثون عنها مع مجرى السيول نزولا ، إلا جحا فقد سار يتفقدها صعودا عكس سير التيار، فقال الجمع له : يا جحا ألا تعلم أن السيول تنزل نحو السفح ولا تصعد القمم، فأجابهم بل أنتم من لا تعرفون زوجتي، فهي من عنادها تسير دوما ضد التيار. أسوق لكم القصة بمناسبة مصادقة مجلس النواب على القانون المالي بالمادة 9 المشهورة، فهذه القصة تنطبق تماما على حالنا اليوم، نتفقد مراحل بناء دولة القانون في الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه بناء دولة القانون، الدولة التي يستمد قانونها مشروعيته من مضمونه الهادف إلى حماية الحقوق والحريات، قبل أن يستمده من مروره بالقنوات الشرعية لإصدار القوانين، إلا أننا نجدها تختار السير على نهج زوجة جحا في معاكسة الاتجاه. كنا ننتظر بحسن نية أن الإدارة ستسير في اتجاه الامتثال للقانون، واحترام القضاء وقدسية الأحكام لتبادر إلى تنفيذ الأحكام الصادرة ضدها وتمكين المواطنين من حقوقهم. وترسخ لدينا هذا الاعتقاد أكثر بعد أن وجه جلالة الملك خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان يوم 14 أكتوبر 2016 إذ أكد على ضرورة تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة، إذ جاء في خطابه » وعلى سبيل المثال، فالعديد من المواطنين يشتكون من قضايا نزع الملكية، لأن الدولة لم تقم بتعويضهم عن أملاكهم، أو لتأخير عملية التعويض لسنوات طويلة تضر بمصالحهم، أو لأن مبلغ التعويض أقل من ثمن البيع المعمول به، وغيرها من الأسباب. » ثم أضاف » كما أن المواطن يشتكي بكثرة، من طول وتعقيد المساطر القضائية، ومن عدم تنفيذ الأحكام، وخاصة في مواجهة الإدارة. فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها. وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟ » كنا ننتظر بحسن نية – وبسذاجتها أيضا – أن تبادر الدولة (برلمانا وحكومة) الى اتخاذ تدابير تسير في اتجاه منع الإدارة من التعسف وتمكين المواطنين من حقوقهم ومنح المواطن أسباب الوصول إليها كيفما كان خصمه، لكن الدولة سارت في اتجاه إلباس التعسف ثوب الشرعية، وخرجت علينا الدولة بالمادة 9 من القانون المالي، معلنة أنها لن ترغم على تنفيذ الأحكام، وأنها فقط ستنفذ الأحكام بإرادتها ورغبتها لمن شاءت ومتى شاءت. وتمسكنا بالأمل الساذج فينا بأملنا في سقوط هذه المادة عند وصولها للبرلمان، إلى أن صعقنا باالحقيقة، وخرج علينا صوت الشعب المعارض، معلنا في خطاب النصر أن مشروع القانون المالية تضمن مادة غريبة تخرق مبدأ دستوريا ، بمسها لهيبة القضاء وحقوق المتقاضين وتزيد من إضعاف منسوب الثقة، وتقحم الفاعلين في نقاش ضبابي، وهو ما من شأنه أن يدفع بالمستثمرين إلى العدول عن مشاريعهم، ثم فتح صوت الشعب المعارض قوسا ليحدثنا عما وقع صباحا بلجنة المالية، وكان الأحرى به أن يحدثنا عما حدث في منتصف النهار على مائدة الغذاء. صوت الشعب أخبرنا أن رفضه للمادة كان رفضا للمس بسلطة القضاء ورفضا للمس بحقوق المواطنين، واستطاعت المعارضة، أن تفرض تعديلا تجاوبت معه الحكومة، لقد كان صوتا للشعب، الذي يتوهم أنه أوهمنا بأن حال المادة 9 قبل وجبة الغذاء ليس كحالها بعد هذه الوجبة، وأن المقتضيات التي تمس بهيبة القضاء وحقوق المواطنين تم التخلص منها، قد أمست أو غدت ( أي وقت المساء أو بعد الغذاء ) تنص على أنه يجب أن تقدم طلبات التنفيذ للآمرين بالصرف، وأوجبت على هؤلاء الآمرين تنفيذ الحكم بعد تسعين يوما وإلا نفذها المحاسب العمومي تلقائيا، لكن كل ذلك في حدود الاعتمادات المرصودة محاولين ايهامنا بأن الدولة والجماعات ترصد في ميزانياتها الاعتمادات الكافية لتنفيذ الأحكام الصادرة ضدها، والحال أن القاصي والداني، يعلم أن الاعتمادات المخصصة في الميزانيات السنوية لا تغطي سوى نسب ضئيلة من المبالغ المدينة بها الدولة والجماعات بموجب أحكام نهائية، ومن باب التوهيم أيضا أن وضع أجل أربع سنوات لإدراج المبالغ المحكوم بها نهائيا ضمن الاعتمادات المرصودة لذلك، دون أن تحدد المادة 9 الجزاء المترتب عن عدم إدراج هذه المديونية داخل الأجل المذكور. بهذه التوهيمات خرج صوت الشعب المعارض يبشر بنصره العظيم، سائرا على نهج زوجة جحا التي استطاعت أن تخدع النهر والسيول وجموع الباحثين عنها، فتوهموا أننا نمنا قريري العين. هكذا قتلتم الأمل الساذج فيكم، معتقدين أنكم تحمون الإدارة من سلطة القضاء، غير منتبهين أنكم لم تحرموا الناس حقوقهم فحسب، بل فتحتم الباب للمزيد من الفساد والمحسوبية، حينما منحتم الآمرين بالصرف سلطة التنفيذ لمن يشاء بمعايير يستقل بتقديرها أولها الاستفادة من نسبة المبلغ المنفذ. كان على أعضاء الحكومة والبرلمان – بما فيها المعارضة التي تصرح أنها صوت الشعب – إن القانون في دولة القانون، ليس فقط قواعد ملزمة صادرة عن قنوات شرعية، بل هي أساسا قواعد معيارية يجب أن تقر وتضمن الحقوق والحريات، وعليه فدولة القانون في حاجة إلى قضاء قادر على الوقوف في وجه سلطة الحاكم، وهو ما لا يتحقق، إلا إذا وضع على قدم المساواة مع باقي السلط، فدولة القانون كما يقول ميلارد (Millard ) ليست تقنية لتنظيم السلط السياسية، وإنما هي مشروع سياسي يرمي إلى إرساء الديموقراطية، والحكم الرشيد، وفصل السلط، وإقرار الحقوق والحريات. وعلى ما يبدو أن البرلمان والحكومة والإدارة الموجودة تحت تصرفها تفهم القانون على النحو الذي شرحه وحيد حامد على لسان عادل إمام في فيلم طيور الظلام حينما نصح الوزير (جميل راتب) فقال له » القانون زي ما يخدم الحق بيخدم الباطل، ونحن ناس الباطل بتعهم لازم يكون قانوني » لك الله يا وطني