بعد مسيرة طويلة بدء من إميضر مرورا بتنغير والراشدية والريش وميسور وغرسيف وتوريرت وصولا إلى وجدة التي لا تفصلها عن جرادة سوى مسافة 70 كيلومتر. مبيتنا في عاصمة الشمال الشرقي للمغرب، شكل لنا فرصة للتعرف على أناس طيبين وبشوشين على خلاف ما يتداول حولهم، على الأقل من التقيناهم كانوا طيبين كفاية لجعلنا نفكر في معاودة زيارة هذه المدينة. وكانت فرصة أيضا للتعرف على بنية هذه المدينة ومعمارها، ونحن اللذان نبحث بلهف شديد في كل مدينة زرناها عن روحها وكل ما يشهد بصمود تاريخها، مترصدين الجدران القديمة اقتفاءً لأثر كل من مروا من هنا المرينيين والسعديين والعثمانين والعلويين، ومتأملين للأحياء القديمة ومنازلها بحثا عن الهوية في الحجارة، وخوفا من اندثارها جراء الزحف السريع والمتواصل للمباني الاسمانتية. فضولنا لم يكن كافيا لمعرفة كل شيء عن هذه المدينة، كن نحتاج إلى من يحدثنا من العارفين بأحوالها عن أهلها. بعد إجراء مجموعة من الاتصالات لترتيب بعض اللقاءات، كتب للقائنا الأول أن يكون بصحفي شاب في غاية اللطف والكرم من أجل أن نتحدث قليلا عن جرادة بما أنه اشتغل على هذه المدينة أثناء الحراك في 2017 ويعرف نشطاءها، خصوصا وأنه كان شاهدا على مجموعة من الأحداث وعلى دراية دقيقة ببعض التفاصيل التي كن بأمس الحاجة إليها حتى تضح لنا الصورة. حقيقة كان لقاء مفيدا أعدنا في ضوئه التفكير في خططنا ورتبنا أولويتنا. ما إن أنهينا لنقاش معه حول مدينة جرادة وحراكها، وجدنا أنفسنا نفتح قوسا جديدا للنقاش حول مدينة وجدة، طرحنا عددا من الأسئلة التي يملؤها الفضول ويؤطرها الشغف لنعرف أكثر عن هذه المدينة الحدودية. بدأ حديتنا معه عما ترتب عن قرار إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر في سنة 1994 من آثار اجتماعية واقتصادية وكيف انعكس هذا عن دينامية المدينة؟ وماذا ربحت وجدة وماذا خسرت جراء هذا القرار؟ وهو يقدم لنا إجابات مرفقة بمعطيات ووقائع، توقفنا بالكثير من الاندهاش والحسرة على قساوة الحدوة وبرودة حواجزها التي أنهت تاريخا مشتركا وأغلقت مجالا مفتوحا وقسمت عائلات مختلطة إلى عائلات هنا وهناك تعاني ألم الفراق والبعد، وتعيش على أمل لقاء بعضها بعضا. لا تقف قساوة الحدود عند الاجتماعي بل تتجاوزه لتشمل الاقتصادي ولتوسع من دائرة ضحاياه. اغلاق الحدود أنهى المعاملات التجارية الحدودية، وفتح الباب لانتعاش « الاقتصاد الحدودي غير المهيكل » أو على ما يسمى بالتهريب المعيشي « الترابندو »، هذا الاقتصاد البديل الذي تزداد أرقام معاملته بازدياد عدد الثغرات الحدودية، وفر خلال سنوات مضت فرص عمل كثيرة لعدد من الفئات، تدنى اليوم حجم معاملاته وانخفض دخل العاملين فيه بعد إحكام الطرفين (المعرب والجزائر) إغلاق الحدود، فحتى سوق الفلاح الذي كان من أكبر الأسواق الذي كانت تنتعش فيه تجارة « السلع المهربة »، لم تعد تسمع فيه أينما أدرت وجهك إلا عبارة « وش خاصك الدوا »، هذه العبارة التي كانت ترمى على مسامع كل من دخل إليه، كانت تلخص كل شيء، ويفهم منها كل شيء؛ لا شيء تبقى من التهريب المعيشي غير « الدوا ». أصبحت اليوم هذه المدينة كغيرها من مدن المغرب الشرقي تعيش على إيقاع قاتل، يتمثل في التزايد المستمر لعدد سكانها والانخفاض الدائم لمعدلات نموها الاقتصادي ما يزيد سكانها هشاشة فقرا. لا تجد فئات اجتماعية حلا لتغيير وضعيتها الاجتماعية والاقتصادية إلا في الهجرة إلى الخارج. فهو الحلم الذي لم تسطع تبديده الأزمات الاقتصادية التي توالت على أوروبا. أغلب الشباب هنا يعيشون على أمل إيجاد عقد عمل للبيع أو عقد قران أبيض، خصوصا وأننا في فصل الصيف حيث تنتعش هذه التجارة. بعد انتهاء نقاشنا الممتع والمفيد مع الصحفي حول المستقبل الاقتصادي للمدن الحدودية، رتبت لنا الصدفة لقاء عفويا مع رجل تبدلنا معه أطراف الحديث إلى أن بدأ يسرد لنا بالكثير من البطولة والألم عن الكيفية التي كان يتخطى بها الحدود هو وزوجته ذات الأصول الجزائرية من أجل زيارة عائلة زوجته في الجزائر، زيارة بطعم المرارة وبمثابة مغامرة غير محمودة العواقب، كل شيء وارد فيها الموت أو الاعتقال. لكنها تلخص قصة جماعة تأبى الخضوع لسياسة أمر الواقع التي فرضها قرار اغلاق الحدود وما ترتب عنه من فصل وعزل تعسفيين، وترفص فكرة تشتيت شملها وشل حركية أعضائها في مجال كان مفتوحا دائما في وجوههم. وقد تحول هذا الرفض لدى « معذبي الحدود » إلى عزم وإصرار على تخطي هذه الحدود بكل الطرق الممكنة والوسائل المتوفرة، من أجل لقاء الأهل ومشاركتهم أفراحهم وأقراحهم. يتحدث الناس هنا وربما هناك أيضا بالكثير من الدهشة والإحباط عن قتل ما تبقى من أمل لديهم في فتح الحدود، بعد ما شيد هنا سياج بطول مترين وحفر هناك خندق بعمق سبعة أمتار. تحولت مسافة أقل من 5 كيلومترات ومسير ساعة على الأقدم، إلى سفر شاق من وجدة إلى الدارالبيضاء عبر الحافلة أو القطار وإلى رحلة مكلفة من الدارالبيضاء إلى وهرن عبر الطائرة. كل ما سمعناه عن وجدة كان يندر بواقع أسوء في مدينة جرادة. هذه المدينة التي طالها النسيان بعد قرار إغلاق منجم استخراج الفحم الحجري فيها، والتي أخطأت التنمية الطريق إليها، عادت في 2017 لتتصدر الأحداث باحتجاج طالبت من خلاله الساكنة ببديل اقتصاديا قادر على انتشالهم من « سندريات الموت ». جرادة محطتنا الأخيرة ستكون موضوع حديتنا في المقالات المقبلة.