على سبيل الاستهلال (2) قوة أي نظام سياسي في قدرته على التوقع والمبادرة. الأوطان لا تبنى بالنوايا الحسنة فقط. تحديد « الأعداء » الحقيقيين، ماديين ومعنويين، جزء من نجاح الأنظمة. ******** مطامح البدايات تكون دوما أوسع من الممكنات. الحقيقة الأولى الصادمة في عهد محمد السادس تفجرت مع أحداث 16 ماي في 2003. كانت حدثا غيّر وجه المغرب الحديث، وبالقطع غيّرت في أجندة الملك الجديد لحكم المغرب. لقد انكشفت، على نحو صدام، حقيقة أن البلد ينخره فقر مدقع انفجر في وجه الجميع بشكل عنيف، بعدما تغذّى على « تديّن » مستورد عدّل إلى الأبد في « جينات إسلام المغاربة »، لكنه لم يكن غريبا على الأقل على « جزء من نظام الحسن الثاني » مدّه بكل أسباب الانتشار في لحظة « خطأٍ في الحسابات »، عبر توظيف خطير للدين في محاصرة قوى سياسية. محمد السادس، الذي وُصف في بدايات حكمه ب »ملك الفقراء »، وجد نفسه أمام تعبير صادم وإرهابي عن الفقر، وعن أعطاب تبدأ من التعليم ولا تنتهي عند حدّ. فهم الجميع على نحو مؤلم أن المغرب مغربان وأكثر، وأن التعبير السلمي قد لا يكون لغة كل المغاربة، وأن نيرانا تتّقد من تحت رماد الحرمان. المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كانت ردا مباشرا، واعتبرت ورشا يفترض أن يغيّر الكثير من الأشياء. صِيغت على عجل، وكجواب آني على وضعية أصابت الجميع بالصدمة. أسقطت بالفعل مقولة أن المغرب محصّن أمنيا، وأنه بلد النماء. رُصدت إمكانات هائلة لتحقيق التنمية، أو على نحو أدق، لتفكيك بؤر التوتر الاجتماعي التي يمكن أن تخلخل استقرار النظام السياسي، لأن أرض المعركة الحقيقية للنظام المغربي كانت ولاتزال توجد في معيش الناس وشعورهم بالكرامة، ومستلزمات ذلك سياسيا وحقوقيا تاليا. ********* هذا الورش، الذي انكسر في منتصف الطريق، لم يكن ممكنا ألا يستتبعه ورش مواز للتأهيل السياسي يواكب ويصاحب رؤية الملك للتنمية في أبعادها كلها. لقد استقر رأي صانع القرار، أيضا، على أن المشهد يتجه إلى أحادية حزبية عنوانها الأبرز الإسلاميون: ممن يوجدون داخل النسق ومن هم خارجه. لقد سعت الدولة إلى إحداث ما رأت أنه توازنٌ ضرورة، على قاعدة: النظام السياسي في المغرب لا يتحمل فاعلا حزبيا وحيدا. تجارب الماضي كانت قاسية، ولا مجال لتكرار « أخطاء » ما بعد الاستقلال. باختصار: الملكية لا تتحمل ولا ترغب في أن تكون أمام فاعل حزبي مهيمن وجها لوجه. خلال تنزيل هذه الرؤية السياسية حصلت الكثير من الأعطاب، وحمل المشروع بذور فشله معه، بل واعتقد كثيرون أننا بإزاء إنتاج هيمنة حزبية، فيما رأى البعض، في المقابل، أن إطلاق حركة لكل الديمقراطيين، وبعد ذلك حزب الأصالة والمعاصرة، كان بهدف تلافي الهيمنة الحزبية لا إنتاجها. وبالتأكيد كان وضعا مثيرا للتشكك، والارتباك أيضا. على مستوى المضمون تأكد أن الأحزاب التي تصنع في مختبرات السلطة تتلاشى قبل أن تحقق أغراضها. وفي المضمون أيضا أن حَمَلةَ المشروع، في الغالب الأعم، أهم من كل تفصيل، وفي تجربة الحزب الجديد لقد سعت بعض قيادته إلى أبعد من المخطط له، بل اتسعت أحلامها الشخصية على حساب الفكرة. هل يجدر بنا، مرة أخرى، أن نذكّر بشخصيات كيف تضخّمت أدوارها مستغلة وضعا سياسيا ملتبسا؟ الشواهد أكثر من أن تُحصى. على مستوى الشكل، لم يكن ممكنا فصل تأسيس الأصالة والمعاصرة عن الدولة. لقد كان خطأ ربط المشروع على نحو مباشر بشخص فؤاد عالي الهمة. اسمه كان كافيا لإثبات أن الأمر أبعد من مبادرات شخصية، وتأكد أكثر لما عاد إلى القصر واضعا مسافة أمان معقولة مع الحزب. لقد أدى مشروع الأصالة والمعاصرة مفاعيل عكسية. أعطى كل أسباب الزخم لحزب العدالة والتنمية، الذي فهم أنه المقصود تحديدا بهذا الترتيب السياسي الجديد، وبمقتضى هذه القراءة تصرّف، ودخل في اشتباك سياسي على حدود الملكية وقريبا من مربعاتها، مستغلا عدم قدرة الدولة على الوضوح في عدم تبني الحزب بشكل حاسم، وهو أمر على كل حال لم يكن ممكنا، فسَهُل وصْمُ الحزب الجديد بكل ما ألقي في طريق التخاطب السياسي من كلام قاسٍ وجارح، مما يستحقه ومما لا يستحقه. هل جاز الآن أن نقول إن حزب الأصالة والمعاصرة كان، بغضّ النظر عن الهواجس والأهداف، إحدى خطايا فترة حكم محمد السادس؟ تأكد فيما بعد أن الحزب لم يكن ممكنا أن ينتصر، بل وبسببه وضعت الدولة نفسها تحت ضغط زائد نتاج واقع سياسي سمح باشتغال كل الأطراف في المساحات المظلمة والرخوة، حيت المسؤولية السياسية أخف، بتحرر الجميع من الضوابط المرعية في نظام لا يقبل الذهاب بعيدا في « الكلام ». لقد كان العدالة والتنمية محظوظا بالطريقة التي جرى بها إخراج سيناريو الأصالة والمعاصرة، وكان محظوظا أكثر بالربيع العربي، الذي فرمل مشروع الدولة السياسي، وكل الرهانات عليه. ********** للمرة الثانية يجد محمد السادس نفسه أمام حدث من خارج الأجندة (الربيع العربي)، فكان لا بد من تغيير كل المعطيات. عاد إلى الفكرة الأولى والأصيلة والقاعدة البسيطة عند كل منعطف حاد: الأولوية لاستمرار النظام ونقطة إلى السطر. ومن مقتضيات هذا القبول بقيادة العدالة والتنمية للحكومة، بالتوازي مع اتخاذ إجراءات سريعة لتجنب أي مفاجأة غير مرغوبة في هذا المسار. هل نحتاج للتذكير بسلسلة البلاغات التي جرى إصدارها وأعلنت تعيين عدد من الأسماء مستشارين للملك إلى الدرجة التي فهم منها أننا بإزاء حكومة ظل أو حكومة موازية، حتى صارت فيما بعد، ولأسباب كثيرة، بحكم الحكومة الفعلية؟ لقد انتقلنا من لحظة ترتيب المشهد وفق تصور مسبق، إلى مستوى تدبير لحظة سياسية فرضت دخول العدالة والتنمية الحكومة بدفع من أحداث 2011. لم يكن ممكنا طيّ الصفحة، ولم يكن سهلا أيضا التعامل معها. هل شعر النظام أن بنكيران كان عبئا ومن النوع الذي يصعب ضبطه في سياق حسّاس؟ وما علاقة السؤال عن بنكيران بما نحن بصدده؟ نتجاوز إلى حين. الربيع العربي فرض معطيات جديدة على الملك محمد السادس. وفيما جرى التعامل أمنيا مع حركة الشارع بحذر، تحت عنوان « لا نسمح بهيمنة أجندة الشارع.. ولا نقمع حركة الشارع »، كانت الطبخة تستوي لإطلاق إصلاح دستوري على أمل استيعاب شروط اللحظة. انحنى النظام للعاصفة دون أن ينكسر. بل استطاع أن يُقدم على خطوات « إصلاحية » تجاوبت في حدود الضغط الذي فرضه الشارع. « العطاء » كان متناسبا مع الضغط، لا أقل ولا أكثر. إن الأمر يعني نظاما ملكيا وليس جمهورية. النظام الملكي حساباته أكثر تعقيدا، لأن الامتداد في الزمن غاية الغايات، ولا تُدرك إلا بالقدرة على تدبير ما يمكن أن يُعطيه في مواجهة المطالب المتصاعدة. يحسِب حسابا أكثر للحظة التي يضطر فيها للعطاء أكثر من غيرها. بغض النظر عن تقييمنا لتقدمية الدستور الجديد حينها، فقد كان جوابا آنيا وسريعا، تماما كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لكن ما يثير الاستغراب أن الإصلاحات الدستورية على نحو عام يفترض أن تضمن لأي نظام سياسي استقرارا لزمن معقول. في المغرب جرى الشعور بأن رصيد الإصلاح الدستوري ل2011 تبدّد أسرع من اللازم. هل استنزفت النقاشات السياسية التي مورست في ميدان الشعبوية دستور 2011 وساهمت، بالتبعية، في استنزاف اللحظة السياسية؟ ممكن، لكننا بالقطع كنا قد انتقلنا من محاولة ضبط مشهد سياسي كاد ينفلت، مدفوعا بهواجس قوة الإسلاميين، إلى محاولة « الضبط » و »التحكم » في مشاركة « حزب الإسلاميين » في الحكومة. كانت فترةَ « المنزلة بين المنزلتين » في كل شيء، وهي نتاج « الإدماج الضرورة » للعدالة والتنمية « قبل الأوان والتأهيل ».