إن المجتمع البعيد المدى الذي نَضَعُه في خُطاطَتنا الاستراتيجية، لا يُمكن لَيُّ عُنقِ الواقع الحالي لإلزامه به، فلا يمكن تَقَبُّل قالبِ أحْلامٍ لا شروط حاليا لتجسدها فيه ماديا، مهما كانت حُجية سَدادِ تصوراتنا الاستراتيجية، لذا فلا مناص من اشتغال العقل الجدلي المتمرحل على إجابات متمفصلة مع ذات الاستراتيجية بالمشروع البعيد المدى، أخذا بعين الاعتبار طبيعة إكراهات الواقع، وكذا التصورات المرحليةالتي تحقق تراكمات مادية حقيقية، يمكن أن تكون مغايرة للمشروع الاستراتيجي في التكتيكات، لكنها لا تناقض تمفصل الوصول إليه. منذ حراك 20 فبراير وذات التلويح بصراع الشعارات، يخفت ليرتفع من جديد، حول تناقضات وتقاطعات مشروع الدولة المستقبلي، والتخويف بالسقف والتخوف منه والتهديد به، حتى صار فزاعة، لتهرب النخب والتنظيمات المعارضة من مهامها الحقيقية في الإجابة الواضحة عن مشروع الدولة الآن، وتتهرب من أسئلة المغاربة عن المعيش الآن، حيث يعيد البعض طرح نفس الأسطوانة المشروخة، في محاولة للمحافظة على أحزمة الأتباع الكلاسيكيين، أكثر من تمثل إجابات مادية للحظة. قد نتفق أن حركة اجتماعية جماهيرية متعددة الأطياف والمشارب السياسية، يصعب تسقيف حركيتها، لأن ديناميتها من تفرز منحنى حدة صراعها والسلطة الحاكمة، ومدى ميل ميزان القوى سياسيا في خضم الصراع لإحدى دفتي التناقض، لكن ليس من المسموح في منطق الصراع أن يفقد تنظيم سياسي بوصلة الإجابة الخاصة عن اللحظة وانتظارات أحزمته الجماهيرية، فيفر إلى الأمام ملوحا برفض إطلاقي للمشاريع المطروحة من طرف خصومه، وهذا حقه، لكن الأدهى أن يصمت عن الإجابة حين يُسْأَلُ عن أجوبته للحظة، ويستمر في التلويح بذات الدولة المثالية التي قد يغلب عليها جانب من الرومنسية الحالمة أو الأسطورة غير المؤسسة. طالعت ردود بعض قادة العدل والإحسان، ولا مشكلة هناك في النقاش الهادئ لصُلْبِ الأفكار، وذلك حول رفضهم أن يتم اشتراط الملكية البرلمانية عليهم كسقف، حين التقاطع الميداني في الحركات الاجتماعية، وهذا أمر مغلوط، لأن لا اشتراطات هناك، مادام ليس هنالك لا تحالف ولا برنامج مرحلي ولا تنسيق سياسي، إنه مجرد جدل عمومي حول مشاريع تنظيمات مستقلة بذاتها، إذن فلنخرج من متاهة فزاعة فرض الأسقف لأنه إهدار للطاقة المنتجة، ولنناقش المشاريع المطروحة على حدى. إن مشروع تنظيم العدل والإحسان واضح في طرحه الاستراتيجي لتحقيق الخلافة على منهج النبوة، ولا مشاريع مرحلية هناك للوصول لهاته الدولة « الاسطورية »، إلا أن نفي الوراثة في انتقال السلطة في اوراق الجماعة، يضع مشروع الخلافة هذا في مأزق ضرورة تسطير برنامج مرحلي لإسقاط الملكية مادام الحكم العاض والجبري نقيضين مرحليين وأبديين، لذا فأي طرح يلوح بالدولة المدنية لن يستقيم من خلال أدبيات الجماعة دون إسقاط لنظام الوراثة الملكية، والآلية التركيبية واضحة من خلال رؤية كتاب منهاج النبوة : التربية – التنظيم ثم الزحف، الخط مستقيم نحو الهدف الاستراتيجي، ولا تمرحل في برامج تجيب على لحظات زمنية قبل الزحف، ماعدى تلويح إضطراري بالدولة المدنية إبان حراك 20 فبراير، ما مدى تدقيق تصورها المرحلي ؟، هل تقبل بإجابات والملك العاض والجبري يمكن أن يقتسم سلطه، و هو على رأس إمارة المؤمنين كإجابة منسجمة ومشروع الخلافة، إن أصلحت الملكية ذاتها كما ورد في رسالة الأستاذ عبد السلام ياسين ؟ إذاَّك سيصبح الإستبداد مطية دينية بعباءة منهاج النبوءة، هي إشكالات أساسية تضع مشروع الخلافة مبهم الطرح إن لم تدقق العدل والإحسان ما تريد، ونفهم ما تريد، وعلى أي طبقات اجتماعية تستند في مشروعها، حتى لا توسع هامش التيه بين كادحي أبو الذر الغفاري في حواري سباتة وهم يصرخون بؤسهم، وميسوري آل عثمان بن عفان وقلبهم على ريع السلطة، فأي تربية جماعية تحقق الدولة المدنية الجامعة لفسيفساء الوطن والتي لازالت عنوانا ؟، أهو تنظيم موحد وفق منظور القومة أم مغناطيس للحشد الميداني نحو زحف سُطِّرَ ذات رؤيا، حين تقارع الأفكار بالأفكار لا مجال للهروب من السؤال الساطع، ففيه مفاتيح الإجابة عن المستقبل ووضوح لعين الآخر في ذات الزمن وذات التقاء التفاعل النقدي ولو على لون آخر، أتت نفس الردود المتناغمة من بعض قيادات النهج الديمقراطي، كلما حاولت التدقيق معهم في طبيعة الإجابة على اللحظة، نفوا الواقع شكلا ومضمونا، ورفعوا شعار شيوعية مبهمة، تتسلم فيها ديكتاتورية البروليتاريا مقاليد الحكم في نظام جمهوري لا طبقات فيه، فلنسلم جدلا بهذا المشروع، تُطَوِّرُ النقاش معهم، هذا مشروعكم الاستراتيجي، ماذا عن الآن ؟ ماذا عن الغد القريب ؟ لا إجابة، إشتغال حثيت من أجل الحلم الجمهوري الشعبي، هذا حق خاص في امتلاك استراتيجية خاصة بتنطيم سياسي، لكن هل من إجابة عن مشروع الدولة المرحلي، لا جواب، وتصل ذات القيادات لِلَفْظٌِ باقي اليسار المختلف و الأقرب، ووسمه بالانبطاح والإصلاحية والولاء للنظام، فالحقيقة المطلقة سيدة المكان والزمان، إذ لا تمرحل هناك ولا تكتيكات، حتى التي يمكن أن تصب في الاستراتيجية العامة، ونفس التلويح برفض والعداء لطروحات الملكية البرلمانية، كأنها إملاء وشرط لتحالف ما، هي تصور سياسي لتنظيمات اختارت الإجابة على الواقع وتناقضاته ولم تفرضه إلزاما مادام كل تنظيم يملك حرية اختياراته، فلا أحد يتسيد اليسار إلا بالقدرة على إقناع المغاربة بطروحاته للوصول إلى مرتكز القاعدة الجماهيرية للتغيير الديمقراطي، فلا يظنن أي تيار بذاته الاحق بالحديث عن طهرانية اليسار، وكما تفرقنا الميادين يمكن ان تجمعنا. حين طرح مشروع الملكية البرلمانية، وقع ارتباك كبير في التلقي من بقية الاطياف، الاحزاب الإدارية تخوفت من فقدان مظلة الملكية إن فقدت صلاحياتها الواسعة، والجماعة والنهج كانا أكثر شراسة في التصدي لتصور الملكية البرلمانية، وكان عامل خطإ الحسابات أن اعتقدا أن مرحلة حراك 20 فبراير لحظة للحسم بنفس ثوري، فالتقدير السياسي للحظة أربك التعاطي وصحة تحليلهما، إن طرح الملكية البرلمانية ليس استجداء كما يتوهم البعض، بل معركة كسر عظم مع الدولة المخزنية، مبتدأها ومنتهاها فك التناقض بين الملكية بسلطاتها الواسعة في تدبير الشأن السياسي والثروة وكذا مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية، من حيث أن الملكية البرلمانية تسحب سلطات الملك والحاشية المخزنية على الحقل السياسي، ليُفْسَح المجال لنظام نيابي مستقل يفرز حكومة بكامل صلاحياتها، يستمد مشروعيته من أصوات الشعب المغربي، بفصل حقيقي للسلط وقضاء مستقل يصدر أحكامه باسم الشعب المغربي، مع الاحتفاظ بالملكية وتمثيليتها الرسمية وبعدها التاريخي، وواهم من يعتقد أن ملكية برلمانية بهذا الشكل ستأتي منحة او هبة مجانية، بل فلتشمر القوى الديمقراطية والتحررية عن ذراعها سواء من اعتبرت هذا الطرح مرحليا او استراتيجيا، ومن يستهويه رفع فزاعة دولته الاستراتيجية، فليضعها في الثلاجة، لأن الإجابة الآنية والموضوعية : صراع مرير من أجل ارضية واضحة للملكية البرلمانية تعيد السلط الحقيقية للشعب المغربي، وسأدع جانبا مشروعي الاشتراكي التحرري إلى حين، فالملكية البرلمانية تصب في استراتيجيتي البعيدة. ملحوظة : عيننا وعقلنا وأجسادنا في قلب دينامية الحراك المطلبي العارم للمغاربة، هي تدقيقات تقدم الأمور نحو وضوح أكبر.