مدخل منهجي هذا مقال في التصور وليس في التنزيل، يروم في تحليله انطلاقا من نموذج معرفي "الجمع بين القراءتين"؛ أي النظر بحسابات سياسية مادية، مع استشراف المستقبل والعين على الغيب. و إن بدا الأمر لبعضهم انغماسُ الضعيف في حلم النهضة، فإن الحلمَ هنا هو مشروعُ "تصوُّر المستقبل، وهو بالتالي طلبُ "الممكن كلِّه" إذا وُضِعَتِ الإرادة كلُّها في خدمته، وذلك جوهر المشروع السياسي، وبالتالي فإن الحلمَ مشروعٌ سياسيٌّ يحقق كلَّ المَقْدورِ عليه فكرا وفعلا إذا اسْتَعْمَلتِ الإرادةُ كلَّ وسائلِها بقوة وذكاء" مرجعيته هي "نظرية المنهاج النبوي" عند الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله ، نريد من خلاله أن نوضح كيف وضعَ الأستاذ بقلب مطمئن لكن بعقل فاحص ناقد التاريخَ الإسلاميَّ في خطّ لاحب، حتى يوضحَ لنا السياقَ العامَّ لمجريات أحداثه، ونعرف أين وقع الخلل، وكيف؟ ولماذا سكت من سكت، وقام من قام؟ ثم نبين كيف وقف وقفة استشرافية، فكر من خلالها في مستقبل الإسلام: كيف يسود في بلاد المسلمين، وكيف يقود المستضعفين في العالم لحياةٍ أساسُها العدل في الحكم والأرزاق. والمناسبة هنا ليست شرطا هي عودة النقاش حول الموقف من التاريخ الإسلامي، والخلافة وإمكانية عودتها، والعلاقة بين الفقيه والسلطان، والبيعة وشروطها، وغير ذلك. أما الجهاز المفاهيمي الذي سنوظفه في هذه الدراسة فكلها مستقاة من داخل البنية التي كان يفكر من خلالها الأستاذ رحمه الله، ويتألف من مفاتيحَ خمسة : الأول يهدف إلى العودة إلى أعالي التاريخ ، حيث النبع الصافي ( كلام الله تعالى وسنة رسوله ) بعيدا عن التفكير بشروط الواقع وإكراهاته، والذي فرض على علماء السلف أن يتعاملوا مع الحكم وشؤونه بمنطق الحفاظ على بيضة الإسلام وشوكته، وفي ظل هذه الشوكة الخارجية زحف الظلم والعَسْفُ داخليا، فغاب بذلك العدل وغابت الشورى. ومع ذلك سمَّوْها خلافة، وما هي إلا ملكا مذْموما من جهة الشرع والعقل. أما المفتاح الثاني، فمركزي في تصوره الذي يَروم التنظير لمستقبل الإسلام، ويقصد به عامل الإيمان بالغيب. بمعنى أنه ينظر في الأسباب الظاهرة، لكنه ينظر أيضا إلى قدرة الله تعالى وقضائه وتصرفه المطلق في ملكه، من خلال العلل والأسباب أو بدونها. ف"بين طرفيْ إلغاء الأسباب وإلغاء الغيب من الحساب يقع صوابُ الإيمان بقدرة الله تعالى المطلقة والاحترام المشروط على المومنين لسنته في الكون والتاريخ" . وهذا ما يسمى في الأدبيات الإسلامية ب" أمر الله الكوني"؛ أي قدر الله الماضي فينا، في مقابل "أمر الله الشرعي" الذي يأمرنا بالنهوض لتغيير المنكر. وعلى هذا الأساس، فإننا نملك بين أيدينا أحاديث كثيرة تحدثنا عن الانكسار الذي أصاب التاريخ الإسلامي، وتَعدُنا أيضا بعودة الخلافة على منهاج النبوة بعد قرون من العضِّ والجبر. أما المفتاح الثالث فهو التمييز المنهجي بين " تاريخ الإسلام" و " تاريخ المسلمين"، ويُقصد بالأول "لحظات الصفاء" التي عاشتها الأمة بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن نضيف إليها الفترة الأولى من الخلافة الراشدة التي أوصانا نبينا بالتشبث بها وبسنة خلفائها. أما الثاني فيعني به الفترات التاريخية التي ساد فيها الاستبداد حاكما، وتم خلالها إبعاد "روح الشرع" عن الحضور في تدبير الشأن العام. أما المفتاح الرابع، فهو بمثابة رفض تام لما يسمى ب "الفهم البطولي للتاريخ" ، ويُقصد به هنا، تلك الدراسات والتحليلات التي تعطي للقائد والبطل قيمة مركزية في أي تغيير، وتنسب له الفضل في أي نصر تَحوزُه الأمة، وتنفي، أو تقلل، من قيمة مجهودات مكونات الأمة وعناصرِها. فتاريخ المسلمين ما صنعه أشخاص منفردين مهما عَلَتْ مرتبتهم. وقد سقط جل المؤرخين المسلمين في هذا المزلق المنهجي، لذلك نراهم في مدوناتهم لا يؤرخون، في الغالب، إلا للملوك والسلاطين والوزراء والقادة وعِلْيَةِ القوم، ولا تكاد تجد إلا القليل عن دور "الحركات الشعبية و القوى الاجتماعية" في صناعة التاريخ. ومن رواد هذا التصور في العصر الحديث الاسكتلندي "توماس كارليل" في كتابه الموسوم ب "في الأبطال وعبادة البطل". والذي يدعي فيه بأن " تاريخ البشرية إنما هو تاريخ العظماء" . إنه لابد من التمييز بين مبدأي " التقدير" و" التقديس" في نظرتنا لأبطالنا يقول الأستاذ ياسين ، وإلا فإن مستبدين سيصلون إلى السلطة تحت شعار البطولة والشجاعة. في الحقيقة، "إن عِلَّةَ الارتباط مع أغلب رموزنا لم تكن البطولة نفسها، وإنما المضمون الروحي والسلوكي والفكري الذي تُحيل عليه هذه البطولة" . ورفضه لهذا التفسير لا يعني أنه ينفي دور البطل في التاريخ وضرورته، بل يطالب فقط بوضعه في مكانته النسبية. فما قيمة رجل أو حفنة من الرجال في وسط فاسد موبوء ؟ أما المفتاح الخامس والأخير، فيروم التنبيه إلى ضرورة التدقيق في المفاهيم، وتسمية الأشياء بمسمياتها، تجنبا للخلط. ونضرب كمثال واضح على ذلك بمفهومي الخلافة والملك. فالشرع امتدح الخلافة و ذم الملك وجرحه، والصحابة كان لهم وعي عميق بالفرق بين المفهومين. ولابن خلدون كلام نفيس في الباب، فهو بالإضافة إلى تمييزه بين نظامي الخلافة والملك، يجعل الملك على مرتبتين مختلفتين، ف" الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" من النبوة إلى ... عودة الخلافة يَتَّكِئُ الأستاذ ياسين في تنظيره لمستقبل الإسلام على حديث نبوي مشهور ، يشبِّه فيه النبي صلى الله عليه وسلم السيرورة التاريخية للأمة بدورة رحى ذات شقين، وفي خضم دورتها سينفصل السلطان عن القرآن، والنتيجة أنه سيُوَلّى على الأمة أمراءُ "إن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم"، ومن ثم ينصح أبناء الأمة بالتشبث بالقرآن، وإن أدى ذلك إلى الهلكة، " فلا طاعة في معصية الله". هذه الدورة يفسرها حديث نبوي آخر، يُعرَف بحديث الخلافة ، وفيه يُقسِّم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السيرورة إلى خمس مراحلَ أساسية: النبوة، والخلافة على منهاج النبوة، والملك العاض، والملك الجبري، ثم الخلافة الثانية. طبعا، هناك الكثير من الإسلاميين من له رأي مختلف في هذا الحديث، وما يترتب عليه: فمثلا، العالم الفقيه أحمد الريسوني يقول بأن "هذا الحديث، لا يخلو من هشاشة في ثبوته وصحته، وأقصى ما يقوله فيه أهل الاختصاص هو أنه «حسن الإسناد». ومثل هذا لا يبنى عليه شيء من الأحكام الغليظة والأمور الجسيمة، وقصارى ما يصلح له هو التبشير وبث الأمل، أما إذا جد الجد وعظمت الأمور، فلا بد من أدلة صحيحة متينة، وإلا فلا. وثانيا: هناك حديث آخر في الموضوع، وهو في مثل درجة هذا أو أعلى منه، وأعني به حديثَ سفينةَ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء.» فهذا الحديث لم يذكر خلافة ثانية تأتي وتكون على منهاج النبوة بعد الخلافة الأولى. وثالثا: كلا الحديثين ليس فيه أمر ولا نهي، أي ليس فيه تكليف بشيء. فمن ادعى أنه بإعلانه الخلافة وتبعاتها الخطيرة قد قام بما أوجب الله عليه، فليخبرنا أين كلفه الله بهذا؟ ومن أين له هذا الوجوب؟ وإلا فهو دعي، ومن الذين يفعلون ما لا يُؤمرون". وقبله اعتبر فريد الأنصاري رحمه الله "الحديث بكل مراتبه الممكنة مجرد وصف خبري لما سيكون عليه الحال بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من أحاديث الفتن، لا من نصوص التشريع." ثم إنه يعتبر "أن الدلالة العبارية تدل على أن كلا من الملك العاض والجبري يداخل في مفهوم الخلافة لكن لا على منهاج النبوة". ثم "إن الضمير المستتر في "تكون" يعود على لفظ "الخلافة". فالخلافة هي التي تكون تارة على منهاج النبوة، وتارة ملكا عاضا، وتارة جبريا ". "أي أن الخلافة قد تسمو حتى تكون على منهاج النبوة، وقد تنحط حتى تكون ملكا عاضا أو جبريا، ولكنها "خلافة" في نهاية المطاف". أما عودة الخلافة من عدمِه فهذا متروك لفهم كل عالِم لنصوص القرآن والسنة، وإن كانت الرؤية التغييرية الاستراتيجية تتحدد انطلاقا من الموقف من هذا الحديث. لكن غيرَ المفهوم حقيقة هو سوء الفهم الكبير الذي يحصل عند البعض جراء القول بهذه العودة. فلا ندري لم يتبادر إلى ذهنهم وكأن تجربة الخلافة الراشدة ستعود بكل تفاصيلها، دون الأخذ بعين الاعتبار تغير الزمان وتبدل الأحوال، وكون التجربة الأولى كانت محكومة بظروفها. والحقيقة أن هذه العودة إن حصلت، وهي هنا بمثابة "رهان باسكال" ستكون لا محالة متجددة بتجدد الواقع الذي ستقام عليه، مستفيدة من تطور الفكر السياسي الإنساني؛ على مستوى كيفية وصول الحاكم للسلطة ، والعلاقة بين السلط، وكيفية اتخاذ القرار السياسي، وموقع الحاكم... وعلى المستوى الجغرافي ليس بالضرورة أن تسود هذه الخلافة في كل بلاد المسلمين. أما الشكل فقد تتخذ شكل فدرالية أو اتحاد. كل هذا يدخل في باب المتغيرات، أما الثوابت فهي المبادئ والقيم والمقاصد الكلية التي كانت سائدة أيام الخلفاء الراشدين. فالأستاذ ياسين لا يختلف مع عبد الرحيم العلام الذي يرى بأن "نظام الخلافة ليس من منصوصات الدين، وإنما هو- على غرار باقي الأنظمة السياسية- نِتاج للاجتهاد البشري، وخاضعٌ لتقلّبات المناخ والجغرافيا، وغيرَ مُنفلثٍ من مبدأ التاريخانية؛ فأي نظام سياسي محكوم بالنجاح والفشل بحسب قدرته على التكيٌف وامتلاكه لمبرّرات وجوده، والقوانين الاجتماعية، وهذا ما لا يمكن أن يُفرَض بنصوص دينية ثابتة، وإنما ينطبق عليه مبدأ "أنتم أعلم بشؤون دينكم". فهو متروك ل "الدراية" والاجتهاد. إذا عدنا ل"نظرية المنهاج النبوي" وأردنا على ضوئها أن نلخص كل مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي في مقولة جامعة شاملة، فإننا سنُعَنون مرحلة النبوة ب "الوحي والعصمة"، أي أن الفترة كانت مطبوعة بحضور المعصوم صلى الله عليه وسلم المسند بخبر السماء، والتوفيق الإلهي. وكان بمثابة المربي والمعلم: يربي الإيمان في القلوب والفهم في العقول والإرادة في النفوس. أما مرحلة الخلافة الأولى فإن شعارها السياسي الأساسي هي مقولة سيدنا أبي بكر الصديق، والتي مفادها :" إن أصبت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني". وهذا إشعار للناس بأن مقام النبوة انتهى، وأن ما بقي إلا التعامل مع بشر يجتهد. وأن هناك "تعاقد" بين حاكم ومحكوم يسمح لطرفي العقد بنقضه إن انتفت شروط إبرامه. أما مرحلة الملك فيكمن عنوانها جملة في تهديد عبد الملك بن مروان، عندما أعلن في الأمة أنه "من قال لنا برأسه هكذا (دلالة على المعارضة) قلنا له بسيفنا هكذا (قتلا وإفناء). وأنه " لن يداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف"، فلا يأمره أحد بتقوى الله إلا ضرب عنقه. أما إذا أرادنا أن نفصل بين مرحلتي الملك فصلا منهجيا، فإن المهيمن على الملك العاض هو ما سماه سيد قطب رحمه الله ب "الفصام النكد" ، عندما انفصلت الدولة عن الدعوة، واعتزل أغلب العلماء المشاركة في الشأن العام السياسي، وتركوا الساحة مكرهين في أغلب الأحيان لمنطق الطلقاء وأبناءهم. وهنا يواجهنا سؤالٌ فاغرٌ فاه: ترى ماذا فعل الصحابة وإمامهم يقتل؟ لقد اعتزلت طائفة من الصحابة ، وتركت بانسحابها فجوة كبيرة منها دخل على تاريخنا سابقة الحياد مخافة الفتنة، وهذه السابقة هي التي مكَّنَت الرِّعاعَ من قتل سيدنا عثمان، وأضعفت موقف الإمام علي فيما بعد، وفي هذا يقول القاضي عبد الوهاب : ومن يَثْني الأصاغرَ عن مُراد / وقد جلس الأكابرُ في الزوايا ؟ وهي نفسها السابقة التي سيبني عليها القائلون باعتزال الشأن العام جملة وتفصيلا. أما في زمن الملك الجبري فقد اجتمع أمر الدولة والدعوة ولكن في "اتصال أنكد" عندما اسْتَتْبَعَت الدولة رجال الدعوة واستخدمتهم لأغراضها السياسوية الدنيئة.؟ وسؤال آخر يفرض نفسه في غمرة كل هذه التحولات السياسية، مقتضاه: ماذا فعل العلماء على مستوى التنظير السياسي بالخصوص وعُروَة الحكم تُنْقَضُ على يد الأُغَيْلِمَةِ ؟ قراءة عابرة لنصوص منظري الفكر السياسي الإسلامي الأول مع الماوردي وأبي يعلى والجويني والغزالي وابن تيمية تكشف أن مقولات العلماء كانت مسكونةً و مُتهمِّمةً، بالدرجة الأولى، بمفاهيمَ: الجماعة والإجماع والطاعة ، مع غياب كلِّيِّ لمفهوم المعارضة أو ما يقوم مقامه. خاصة وأن الأمة خرجت لتوِّها من تجربة مريرة في كيفية إدارة الاختلاف، كادت تفقد من خلالها وحدتها السياسية. والنتيجة أن مفهوم المعارضة أصبح يتماهى عند الجميع تقريبا خلال القرون الأولى مع البغي والفتنة والخروج، حتى وجدنا الإمام أحمد يفتي بأن الإمامة تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد، ف " من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمِّيَ أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، برًّا كان أو فاجرا" . و ذهب العديد من العلماء إلى أنه يجب على المسلم أن يسمعَ ويطيعَ ولا ينزع يدا من طاعة، حتى يرى كفرا بَواحا عنده من الله برهان، بمعنى أنه وإن قتل وزنى وشرب الخمر واعْتَسَفَ وظلم ... لكنه لم يرتكب" الكفر البواح" فإن طاعته لازمة ملزمة ! في الحقيقة، إن فتوى الإمام أحمد يمكن قراءتها بفهم آخر، فهي تمنح الشرعية الدينية والسياسية لكل خارج، بشرط أولي هو " التغلب"، وبشرط تالٍ يفهم من السياق، وهو " القدرة على الحفاظ على وحدة الأمة السياسية". أما الحاكم الذي تجب بيعته وطاعته شرعا فهو من جرى بينه وبين الناس عقد على أرضية " إن أصبت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني". وما سوى ذلك إنما هو انهزام للنظرية السياسة أمام الواقع وظروفه، وتفكير تحت قهر اليومي وبشروطه. أما المرحلة القادمة، فيلخصها الوعد النبوي ب "عودة الغرباء". وهنا نجد أنفسنا أمام ملاحظتين اثنتين: الأولى، مفادها أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى لا يتم بين عشية وضحاها وبضربة لازب، بل يقتضي الأمر مقدماتٍ وأسبابا وعواملَ، فحكمة الله تعالى اقتضت أن تدور رحى الإسلام بالتدرج في عالم الأسباب ، وليس خارجها، فسنة الله لا تحابي أحدا. والملاحظ الثانية، مقتضاها أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى دائما ما يتم عبر محطة مصيرية في تاريخ الأمة؛ فلكي تمر الأمة من النبوة إلى الخلافة زُلزلة قلوبُ الصحابة وعقولُهم بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وكان لا بد للتاريخ من أن ينكسر في فتنة كبرى حتى تمر الأمة إلى الملك العاض. ولكي تصل الأمة إلى الحضيض الحضاري استلزم من الأمة أن تعيش غثائية شاملة أنتجت قابلية رهيبة للتبعية والانقياد. وأعتقد بأن الأستاذَ كان يعتقد هذا إذا كنت فهمت تصوره جيدا بأن خبر المرور إلى الموعود النبوي للأمة بالخلافة الثانية سيكون مبتدأه انطلاقا من محطة حاسمة في تارخ الأمة. مقدمات بين يدي الخلافة في الفصل الأول من كتابه الموسوم ب " المنهاج النبوي : تربية وتنظيما وزحفا"، يُجمل الأستاذ عبد السلام ياسين "مهمات جند الله التغييرية" في مراحلَ أربع؛ فهي " بدءا من أسفل العقبة، وهو واقعنا كأمة مختلفة مقهورة، وانتهاء إلى قمة العقبة بإقامة الأمة الوارثة في مقام الخلافة عن الله ورسوله، هي بالترتيب الذي لا يمنع التداخل والتزامن متى كانا حكمة" : 1. تأسيس الجماعات الإسلامية القطرية وتربية رجالها وتنظيمهم. 2. إقامة دولة الإسلام القطرية. 3. توحيد الأقطار الإسلامية. 4. الخلافة الراشدة الثانية. وحسب علمي فإنه لم يصدر عن الأستاذ ياسين ما يُفهم بأنه تراجع عن هذا الطرح أو عدّله. ثم إنه لم يتحدث مطلقا بأن هذا الأمر حتمية تاريخية، إنما هو محض استشراف و اجتهاد انتظر من يعدِّلُه أو يقنعه بتهافته. ولأن هذه الخطوات تندرج عناصرُها في إطار "عالم الغيب"، فإنه بمنطق "عالم الشهادة" لم يملك إلا أن يطرح سؤالا مشروعا، وهو: كيف سيصل الإسلاميون إلى الحكم، الذين يُفترض حسب هذه السيرورة أنهم فَتْحٌ بين يدي الخلافة ؟ في عجالة، نبسط بين يدي القارئ بعض مداخيل التغيير السياسي الإسلامي كما هي مبسوطة عنده في العديد من كتاباته: 1 . إما أن يتوب الحكام "توبة عمرية" ، يصحّحون بها وضعيتهم الشرعية، وليس السياسية فقط ، فيعيدون الاعتبار لمفهوم "البيعة" باعتبارها اتفاقا وعقدا مشروطا بين طرفيه. ثم يتلونها بخطوة موازية، ويقصد بها رد المظالم السياسية والاقتصادية. ولكن هذا المقترح ظهر له في الفترة التي كتب فيها مذكرته "لمن يهمه الأمر" حالما بعين الفاحص للواقع وشروطه، ولكنه طرحه كما يبدوا من منطق الدعوة الرحيم، ومن باب تعديد مداخل الاصلاح، وإقامة الحجة. 2. أن ينسجم الحكام مع خطابهم عن إعطاء الحريات العامة، فيقبلوا بوجود الحركات الإسلامية إلى جانب الأحزاب الأخرى، فاتحين المجال للجميع بالتساوي لتبليغ مشروعهم لعامة الناس، ومن ثم تنظيم انتخابات نزيهة يتبارى فيها الجميع على أصوات المواطنين. لكن، للأسف، تجربة الاسلامين في البلاد العربية مع الانتخابات، أثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن الإسلاميين لن يصلوا للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع، إلا إذا تغييرت شروط "اللعبة السياسية". 3. استغلال "فرصة تاريخية" لتسلم مقاليد الحكم، بعيدا عن العنف. ويؤمن بأن هذا المدخل يستوجب بلُغَة أحمد الراشد "المبادرة لاغتنام الفرص، والتهيؤ للولوج من كل ثغرة متاحة، في الحين المناسب، إذ قد يكون الباب المنفتح سريع الانغلاق" ، وهذا يستدعي من الطليعة الزاحفة تيقظا وتحفزا. 4. إعداد هادئ للقوة، وتعبئة للأنصار، وتوسيع لدائرة التعاطف الشعبي المحتضن للمشروع التغييري، ونسف تدريجي لمقومات النظام القائم، في أفق تشكل موجة الغضب العارمة التي تطيح بالبناء المتهالك في قومة شاملة. " إن الانتظار الإيجابي، والتجمع الهادئ هنا ليسا وقوفا، ولا تلكؤا، بل تلبية لنداء الحكمة، وإن لم ير الساذج، والمبتدئ، والجالس على التل، حركة وسير" . " فإنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب" . " ولا يصح أن يتبادر إلى الأذهان أن هذا المدخل يعني السكينة، والتؤدة، والتأني، كتفسيرات وحيدة، وإنما علينا أن نفهم " أنها نداء لبناء القوة ولتصريف الطاقة وفق تقدير و حساب، فهي تقدم إلى الأمام ... وهي انتباه واستباق". وهنا رافقه تخوف مشروع، مقتضاه أن طول الأمد على التنظيم في الإعداد والاستعداد، دون ظهور علامات مبشرة على إمكانية تنزيل المشروع التغييري، قد يصيب العاملين في صفوف الدعوة باليأس والقنوط، وهذا داء عويص يصيب الأفراد والجماعات على القيادة أن تنتبه لخطورته. 5. وفي سياق هذه المداخيل، نجد أنفسنا أمام سؤال عويص، مفاده: هل يقبل الإسلاميون بالوصول للحكم عن طريق الانقلاب العسكري ؟ أو يتسلمونه من يد انقلابية ؟ يعلن الأستاذ بوضوح و صراحة أنه ضد الانقلاب والانقلابية، وهذا يذكرني بشهادة لاحقة لحسن الترابي، الذي صرح بعد أن اكتوى بنار الانقلابية بأن التجربة علمته ألا يثق في العسكر، حينما قال " بأننا لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا فإننا قطعا لن نلجأ للعسكر" ولكن حسب النظرية ما هي شروط هذا التغيير؟ ومن سينهض بأعبائه ؟ في مقال سابق، كنا قد تطرقنا لمقولة مشهورة عن سيدنا علي كرم الله وجهه، يقسم فيها الناس إلى فئتين: أخ في الدين ونظير في الخلق، وقلنا حينها أن الأستاذ يتجاوز تقسيم العالم إلى "دار الإسلام" و"دارالحرب" لأنه تقسيم قائم على الصراع والصدام، وتبنى البديل الذي يقوم على ثنائية "أمة الاستجابة" و"أمة الدعوة". و ويقصد بأمة الإستجابة، مجموع أبناء الأمة الذين ينتمون للدين الإسلامي ب "القوة" أو ب"الفعل"، ويقسمها إلى ثلاث دوائر كبرى: الأولى ما يصطلح عليهم في الأدبيات الإسلامية بجند الله، بما يمثلونه من طليعة مُتهمّمَة بالعمل الإسلامي، ثم ما يسميهم الأستاذ ب "الأعراب"، وهم الذين يوجدون على أطراف الأمة: قلبا وقالبا، ثم سواد الأمة الأعظم. أما أمة الدعوة، فيعني بها تلك الكتلة البشرية التي لا تنتمي لدين الإسلام، إما لأنها لم تقتنع، أو لم تصلها الدعوة. وتنقسم إلى دائرتين كبيرتين: النَّظيرُ في الخُلق ( بضم الخاء)، وهم مجموعة الفضلاء: أفرادا ومؤسسات يقفون مع المستضعفين ضد الاستبداد السياسي والظلم الاقتصادي، هؤلاء يجمعنا بهم يقول الأستاذ حلف إنساني على أرضية العدل. أما الدائرة الثانية، وهم النظير في الخَلق (بفتح الخاء)، فهم مستكبروا العالم وطغاته. والأستاذ ياسين يؤمن أن التغيير الإسلامي يعول كثيرا، بعد التوفيق الإلهي، على سواد الأمة الأعظم، بما يمثله من امتداد عمودي وأفقي للمشروع الإسلامي. والطليعة الإسلامية المجاهدة ستبقى نخبة عاجزة معزولة في برجها العاجي إن لم تصحب الشعب وتتغلغل في صفوفه، وتعمل على تربية الإيمان في القلوب والفهم في العقول والإرادة في النفوس. ف" المهمة الأولى للجماعة أو الرابطة الإسلامية المتصدية للحكم بعد تقوية صفها، وتربية رجالها وتنظيمهم، هي مغالبة الأحزاب ودول الجوار على إمامة الأمة" والتغيير الذي يريده، تلزمه شروط يجب أن تتوفر في كل من الطليعة وسواد الأمة الأعظم. وهنا سنعمل على الوقوف على أهم هذه الشروط بنوع من الإيجاز المفيد. يعتقد أن شَرطيْ النجاح المركزيين، والذي بدونهما لا معنى لأي عمل يوصف بالإسلامي، هما الايمان والعمل الصالح. والإيمان كما، هو معروف، ما وقر في القلب وصدقه العمل، والعمل الصالح يطلب ثلاث خصال: 1 . اليقين التام بموعود الله ورسوله، والهدف منه تثبيت الخطى على الطريق بثقة وعزم. 2 . التشبث كما تشبث أنبياء الله تعالى بسنة التدرج، والهدف منها طمأنت القلوب والعقول لئلا يتسرب اليأس إلى النفوس إن عاقت العوائق وطالت المسافة. 3. الانضباب لسنة الله تعالى في طلب التغيير، وذلك بالأخذ بالأسباب، من إعداد للقوة المادية والمعنوية الحامية للمشروع ، وترتيب النتائج على المقدمات. وإلا سنصبح تجربة تاريخية يقرأها أحفادنا في كتب التاريخ لأخذ العبر والعظات. ثم هناك ثلاث خصال ضرورية للتغيير يجب توفرها في الجماهير خاصة: قابلية التلقي، وتحمل المسؤولية في حدودها الدنيا والثقة في القيادة. أولوية المرحلة يؤكد الأستاذ بأن مهمة الإسلاميين عظيمة، جليلة، لا تقتصر على حل المشاكل اليومية، أو مدافعة الباطل المحلّيّ، بل تتجاوز ذلك إلى أفقٍ أرحبَ، غايتهمُ المستقبليةُ البعيدةُ المدى ساميةً، " أن يُخرجوا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها" بصفتهم حَمَلةُ رسالة القرآن. وبينهم وبين هذه الغاية طريق طويل، شاق، وعقبات كؤود. إن الحركةَ الإسلامية محتاجةٌ الآن إلى "اجتهاد في كيفية تربية جند الله، ثم في كيفية تنظيمهم، ثم في وسائلَ زحفِهم لتسلُّم إمامة الأمة، فالوصول إلى الحكم " بمعنى أن الأولويةَ تُعطى في هذه المرحلةِ لاجتهادٍ يوصل الإسلاميين إلى الحكم: تربيةً وتنظيما وزحفا. هذا الاجتهاد يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التعدد التنظيمي الإسلامي، والاختلاف الحاصل بين المدارس في تقدير الأولويات والاستراتيجيات وقيمة المرحلة، وأيضا وجود الآخر الفكري والسياسي، بما له من حضور وتمرُّس. بمعنى أن أيَّ اجتهاد يروم إصلاحَ ما بالأمة من عطب وقيادتَها نحو أفق العدل والكرامة والحرية لابد وأن يُنسَجَ مع أكبر شريحة ممكنة من فضلاء الأمة و صلحائها في جبهة وطنية أو كتلة تاريخية أو ميثاق جامع أو سمها ما شئت، على أرضية العدل، بمفهومه الإسلامي. و مشروعية ذلك، ما حدثتنا عنه كتب السيرة من ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على "حلف الفضول" الذي أُسِّس في الجاهلية على مبدأ "نصرة المظلوم" . وبعد مُكابدة ومجاهدة وبناء للإنسان ومجاله، وعندما تنضج الشروط، وتتمكن الطليعة من بناء الدولة القطرية، وبعدها إمامة أمة الاستجابة وتجنيدها، وقيادتها، وتربيتها، ورفعها إلى الكرامة الآدمية، وتحررها فكرا ومعاشا، وإحيائها بحياة المشاركة في تدبير أمرها، تآمرا بالمعروف وتناهيا عن المنكر، وشورى، وتنفيذا، بعدئذ تنهض الأمة كلها وقد توحدت، لإمامة المستضعفين في الأرض. وهذا يحتاج فيم يحتاج إلى جماعة منظمة، وإلى رواحلَ أحرار، وإلى فهم واضح لخطة المسير، وإلى فقه لأمر الله ورسوله، وإلى فقه للعالم ونواميسه. فرحمة الله على صاحب رسالة العدل والإحسان، ولله الأمر من قبل ومن بعد.