بالتقويم الهجري، يكون المغرب قد أكمل اليوم 19 بدون الملك الحسن الثاني. ففي مثل هذا اليوم، توفي الحسن الثاني بعدما احتفل بعيد ميلاده السبعين؛ 70 سنة قضى منها 38 سنة في سدة الحكم، حكم خلالها البلاد بقبضة من حديد « فبراير » تعيد تركيب تفاصيل هذا اليوم التاريخي.. فلاش باك اللحظات الحرجة يوم الجمعة 9 ربيع الثاني1420 الموافق ل 23 يوليوز 1999، سينزل الخبر كالصاعقة على رؤوس المغاربة بعدما عممت وكالة الأنباء الفرنسية على الساعة الثالثة بعد الزوال قصاصة ستدخل المملكة في حالة تيه : « ملك المغرب، الحسن الثاني، سيكون قد توفي، حسب مصدر مقرب من القصر ». على الرغم من أن AFP قد نشرت الخبر بصيغة « المضارع الشرطي » ، فإن القنوات الدولية شرعت في نقل « الخبر العاجل » معلنة عن وفاة الحسن الثاني؛ في حين دخلت جل القوات المسلحة الملكية في حالة طوارئ قصوى: مقر الإذاعة والتليفزيون محاط بأفراد الجيش، إنزال أمني مكثف على طول شارع محمد الخامس المؤدي إلى مدخل القصر الملكي، وخطوط الهاتف خارج التغطية. أما داخل دار المخزن، فقد كان الجميع يعرف أن « الأمر قد انتهى » وأن الملك « سيفارق » الحياة، وأن المسألة هي مسألة « سويعات قليلة »، خصوصا بعدما دخل الملك في غيبوبة حوالي الساعة الثانية عشرة؛ حيث سيضع الأطباء « الملك المقبل » أمام أمر الواقع، بعدما تبين أنه لم يعد بإمكانهم فعل أي شيء لإنقاذه.. على الساعة الرابعة عصرا، أسلم الحسن الثاني الروح لبارئها، لتبدأ منذ تلك اللحظة استعدادات العائلة الملكية للمرحلة المقبلة. منذ الصباح؛ كان ولي العهد سيدي محمد قد أخبر الوزير الأول آنذاك، عبد الرحمن اليوسفي بأن حالة والده في تدهور وأنه يجب الإستعداد لما قد سيأتي من بعد، كما أحاط علما ابن عمه الأمير مولاي هشام؛ المتواجد ساعتها في الديار الباريسية، بتطورات الوضع الصحي للملك، طالبا منه العودة إلى المملكة في أقرب وقت. أما في مستشفى ابن سينا حيت فارق الحسن الثاني الحياة، منع جل الأطباء والمستخدمون من مغادرة بناية المستشفى، خصوصا وأن عددا كثيرا ممن كانوا يشتغلون ذلك اليوم لم يكونوا على علم بأن الملك يرقد في المستشفى في العناية المركزة.. إلا أنهم عندما لمحوا عبر النوافذ سيارات سوداء ينزل منها خدام القصر بجلاليبهم البيضاء والطربوش المخزني، منهم من يحمل أصحان « الطيفور » بين يديه؛ علموا بأن الأمر يتعلق بمصاب جلل، خصوصا وأن الملك ظهر قبل تسعة أيام في باريس إلى جانب الرئيس شيراك وعلامات التعب بادية على محياه.. « بقلب مؤمن بقضاء الله وقدره، أنهي إلى الشعب المغربي الأبي وإلى الأمة العربية والإسلامية وإلى العالم أجمع، وفاة قائد عظيم ورجل من رجالات العالم الأعلام وملك من ملوك المغرب العظام، صاحب الجلالة والمهابة المغفور له الحسن الثاني قدس الله روحه، يومه الجمعة على الساعة الرابعة والنصف إثر نوبة قلبية نتجت عن مضاعفات لم ينفع معها علاج. وإنني بهذه المناسبة الأليمة، أتوجه بخالص العزاء إلى الشعب المغربي الوفي الذي عبر دائما عن حبه وولائه وإخلاصه لهذا الملك الهمام. كما أدعو إلى التحلي بالصبر والثباب مصداقا لقوله تعالى « وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ » . رحم الله فقيدنا العزيز وأسكنه فسيح جناته وجعله في مقام صدق عنده مع الذين أنعم عليهم من من النبيئن والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. إن لله وإن إليه راجعون ولا حول ولاقوة الا بالله العلي العظيم » . بهذه الكلمات، سيدفن سيدي محمد حياة الأمير وسيجلس على الكرسي الملكي؛ وفي جانبه شقيقه مولاي رشيد، ليعلن للمغاربة والعالم عن وفاة الملك الذي طبع بأسلوبه الخاص النصف الثاني من القرن العشرين. إلا أن الخطاب، وإن كان قد وصل إلى مقر دار البريهي على الساعة السادسة مساءا، فلن تتم إذاعته إلا بعد مرور ساعتين؛ لكن المغاربة كانوا على علم بوفاة ملكهم عندما أوقفت القناة الأولى برامجها وشرعت في بث القرآن الكريم.. على الساعة العاشرة والنصف ليلا، كان كل شيء جاهزا : التلفزة المغربية يمكنها أن تشرع في ربط الاتصال المباشر بقاعة العرش حيث ستتم مبايعة الملك الجديد. هي لحظات قليلة فقط وسيصبح سيدي محمد يحمل لقب محمد السادس. « محمد بن الحسن، كما كنا نسميه في تلك اللحظة، حافظ على برودة دمه.. كنا نشعر بأنه « أجل » حزنه على فراق والده إلى وقت لاحق » . يقول اسماعيل العلوي، الأمين العام السابق لحزب التقدم والإشتراكية ووزير التربية الوطنية آنذاك في تصريح صحفي سابق. باختصار؛ لقد مرت مراسيم تنصيب الملك الجديد في أجواء هادئة: مولاي رشيد ومولاي هشام ومولاي اسماعيل يوقعون بالتتابع عقد البيعة باعتبتراهم الأقرب عائليا إلى الملك الجديد، ليتبعهم بعد ذلك عبد الرحمن اليوسفي، حسني بنسليمان، إدريس البصري؛ وكل الشخصيات السياسية والدينية والعسكرية المؤثرة في مغرب 1999 . في صباح اليوم الموالي، « محمد السادس » يخرج على متن سيارته من القصر الملكي عبد باب السفراء. إنه يريد أن يقوم بتحية « الرعايا » الذين أمضوا الليلة بجوار المدخل الرئيسي للقصر يبكون ملكهم منذ اللحظات الأولى التي تلت الإعلان الرسمي عن وفاته. إنه أول استقبال جماهيري كبير للملك الجديد، في لحظات امتزج فيها الحزن على فقدان ملك مع فرحة صعود ولي عهده إلى العرش؛ جعلت الناس يصرخون بأعلى أصواتهم مرددين : عاش الملك ! يوم 25 يوليوز 1999، استيقظت الرباط وسط فيضان بشري غير مسبوق : حوالي مليوني مغربية ومغربي يمشون وراء الموكب الجنائزي المهيب للحسن الثاني؛ هذا في الوقت الذي منع الجيش توافد حوالي مليون شخص في القنطرة الرابطة بين العدوتين، وفي المداخل المؤدية إلى الرباط، بعدما اختنقت العاصمة بفعل الحضور الجماهيري الكبير. « جنازة الحسن الثاني كانت واحدة من أهم التظاهرات الشعبية التي حشدت عددا كبيرا من الناس على مدار الخميس سنة الأخيرة؛ بعد عودة محمد الخامس من المنفى سنة 1955، والمسيرة الخضراء سنة 1975 » . يقول الراحل محمد العربي المساري، الذي كان يتولى حقيبة وزارة الإعلام إبان تلك المرحلة. وتحت شمس يوليوز القائضة، سار وراء الموكب الجنائزي الذي قطع الطريق الفاصلة بين القصر الملكي وضريح محمد الخامس (3كلم) مشيا على الأقدام كبار رجالات العالم : بيل كلينتون الأميركي، جاء شيراك الفرنسي، خوان كارلوس ملك إسبانيا، عبدالله الثاني ملك الأردن، بالإضافة إلى قادة الدول العربية أمثال ياسر عرفات وحسني مبارك وزين العابدين بنعلي وعبد العزيز بوتفليقة. لقد بكى المغاربة ذلك اليوم 38 سنة من الحكم.. 38 سنة من الحكم الفردي والمطلق انتهت تحت شمس يوليوز الحارقة. ولعل المثير للانتباه يوم الجنازة هو ذلك الحضور الشعبي الكبير الذي نزل إلى شوارع العاصمة لإلقاء النظرة الأخيرة على الملك الذي لم يعرفوا سواه، تعبيرا منهم عن حبهم له وتحسرهم على فقدانه؛ على الرغم من أن عهده ارتبط بالانهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبالإستفراد بالسلطة، وبمراكمة الثروة، وباغتيال المهدي بن بركة،وسجن تازمامارت.. إلا أنه نجح وهو في نعشه، في حشد أزيد من مليوني مغربي، حسب ما أعلن عنه رسميا بعد الجنازة. لقد سحر المغاربة حيا وميا !