جلست فوق القمة الصخرية أرقب الخيط الرفيع من مياه البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، الذى يفصل جبال إسبانيا عن جبال المغرب، عرفته فى مدرسة منوف الابتدائية بإسم «مضيق جبل طارق»، رأيته فى أحلامى الطفولية كالشعرة البيضاء اللامعة تشق الأرض السوداء الى قارتين أوروبا وإفريقيا ، وفى كل زياراتى لمدينة طنجة، لابد أن أسير على الساحل حتى الحافة، حيث لقاء البحر والمحيط ، أغمض عينى وأفتحهما، مثل زرقاء اليمامة، لأرى إسبانيا، عبر مسافة أربعة عشر كيلومترا، تقطعها السفينة فى خمس عشرة دقيقة فقط. تلقيت الدعوة، لحضور مهرجان تويزا الأمازيجي، الأدبى الفني، الذى يعقد خلال أغسطس من كل عام، بمدينة «طنجة»، التى أصبحت تنسب الى الكاتب المغربى «محمد شكري» عاش فيها ومات فيها وقال عنها: سماوات تتشابك فيها الأبعاد وتتماهي، يتداخل فيها الزمان والمكان طنجة تتجاوز الحدود، لا تخضع للتصنيفات البشرية، يتعايش فيها كل الأجناس والحضارات والألوان واللغات والديانات والقوميات والثقافات، منها الأمازيغية والمصرية القديمة واليونانية والفينيقية والرومانية والعربية الاسبانية والفرنسية والانجليزية والايطالية، أقدمها هى الأمازيغية ، كان يرافقنى فى هذه الرحلة منظم المهرجان، وهو شاب شديد الحماس للتاريخ الأمازيغي، اسمه «محمد أزناكي»، حكى لى تاريخ طنجة عبر أربعة آلاف عام، وهو فخور جدا لأن اللغة الأمازيفية أصبحت اللغة الرسمية فى المغرب مع اللغة العربية، ورافقتنا أيضا شابة اسمها نوال الزياني الكاتبة العامة لمؤسسة المهرجان المتوسطى للثقافة الأمازيغية، تذكرنى فى تمردها ضد السلطات، بصديقتى الكاتبة المغربية فاطمة الميرنيسي التى كانت تصحبنى الى طنجة وأصيلة وفاس، وتدعونى للحوار بجامعة محمد الخامس بمدينة الرباط، والتجوال فى السوق وشرب الشاى المغربى فى المقاهى بالنعناع. كانت قاعة المهرجان فى طنجة مكتظة، أغلبهم شباب وشابات من مختلف أنحاء المغرب، جاءوا بحماس مدهش، ليستمعوا ويناقشوا، كثير منهم قرأوا لى باللغة العربية أو الفرنسية أو الاسبانية ، أجيال العقود الخمسة الماضية، يتابعون ما أكتب على الورق أو على الإنترنيت، خمسة وخمسون من كتبى (على الاقل) أصبحت منشورة بالمجان على الإنترنت، لصالح القارئات والقراء العاجزين عن شراء الكتب، التى ارتفع ثمنها مثل جميع السلع، لا يكسب ماليا من النشر المجانى إلا دور النشر وأصحاب شبكات الإنترنت، أصبحوا يملكون الالكترونات فى الفضاء الجوي، التى تنقل الرسائل والكتب، إلى أى مكان فوق كوكب الأرض، فى زمن أقل من الثانية، انتصار العقل على الزمان والمكان بقدرته الفائقة على الإبداع، لا يحزننى إلا أن العقول، فى بلادنا، لم تسهم فى هذا الاختراع بشيء. وكانت المظاهرات الشعبية مشتعلة بالقرب من طنجة، فى ضاحية «الحسيمة»، ترتفع الهتافات ضد الحكومة والفساد فى المغرب، ويقولون لى إنهم ضد الحكومة فقط ، لكنهم مع الملك ، لأن الملك فى نظرهم ليس مسئولا عن الشر، إنه مسئول فقط عن الخير، ورأيت فوق الجبل الكلمات الثلاث المحفورة منذ نشوء النظام «الله الوطن الملك» وفى خطبة العرش كل عام يردد الملك هذه العبارة: السياسة والدين فى المغرب لا تجتمع إلا في، أنا أمير المؤمنين » ، بعد سقوط غرناطة ترك كثير من المسلمين إسبانيا الى المغرب، خاصة مدينة طنجة، فهى مدينة متعددة الهويات لا تعرف الأحادية تفتح ذراعيها لكل البشر بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الجنسية أو اللغة أو غيرها . وكانت طنجة اسمها «طنجيس» نسبة الى الإلهة طنجيس الإغريقية ، زوجة الإله الأمازيجى آنتي، وقد استطاع الإله هرقل أن ينتزع منه طنجيس الزوجة والمدينة، ويستولى على الحكم والأرض والثروات، يتزاحم ملايين السياح على رؤية مغارة هرقل فى طنجة، كأنما هرم خوفو الأكبر، إبان العصر الذهبى للسياحة فى مصر، زرت مغارة هرقل، رغم أننى لا أذهب مع السياح إلى حيث يذهبون، لكن أصدقائى المغاربة نصحونى برؤية المغارة والأعمال الإثنى عشر لهرقل، تصورتها أعمالا بطولية عظيمة، فإذا بها كلها جرائم قتل وقطع الرؤوس، على الطريقة الداعشية، إنه النظام الطبقى الأبوي، الذى يحكم البشر منذ العبودية حتى اليوم، وهل يختلف هرقل عن حكام العالم الحديث وما بعد الحديث، الذى لا يكف عن إراقة الدماء وغزو الآخرين طمعا فى المال والسلطة؟