تحول جزء من النقاش السياسي والسجال الإعلامي حول تعويضات صلاح الدين مزوار أيام كان في وزارة المالية من جوهر الموضوع إلى قشوره، ومن مدى أحقية وزير في أن يتقاضى 80 ألف درهم ك«بريم» شهري فوق راتبه وتعويضاته القانونية إلى التساؤل عمن سرب الوثائق، ومن يريد إضعاف المعارضة ولأي هدف نشرت الوثائق الآن وليس غدا... استراتيجية مزوار في الرد على ما نشرناه من وثائق ذهبت إلى اتجاه تقليدي يقول: «إذا كنت راغبا في الهروب من موضوع يحرجك، فحاول أن تحرف النقاش إلى موضوع آخر»... وزير المالية السابق، الذي كان يهيئ نفسه لزعامة الأغلبية قبل أن يفشل مشروع «G8»، عوض أن يقدم اعتذارا للمغاربة عن تقاضيه «بريمات» لا يستحقها، لا بمنطق القانون ولا بمنطق رجل السياسة، وعوض أن يرجع ما أخذ من أموال عنوانا على حسن نيته انحرف بمسار النقاش إلى اتجاه آخر... تعويضات الوزراء حددها ظهير 23 أبريل 1975، الذي بين، على وجه الحصر، أجورهم وتعويضاتهم، ومن ثم فإنه لا يجوز قانونا التوسع في نظام التعويضات. وقول مزوار إن 80 ألف درهم، التي كان يحصل عليها بتوقيع من الخازن العام للمملكة، قانونية، قول مرسل لا دليل يقوم على صحته... الآن الكرة في ملعب وزارة العدل التي قال وزيرها إنه فتح بحثا في الموضوع، وسنرى نتيجة هذا البحث، وهل الأمور ستأخذ مجراها الطبيعي بغض النظر عن صفة مزوار كوزير سابق ورئيس حزب معارض وبرلماني يمثل جزءا من الأمة في البرلمان أم لا... الرأي العام يريد أن يعرف حقيقة الأمر، ويريد أن يعرف ما إذا كانت الحكومة جادة في موضوع محاربة الفساد والريع والإفلات من العقاب، أم إن الأمر لا يعدو أن يكون شعارات انتخابية وكلاما للاستهلاك الدعائي، وإن ما يهم الحكومة الآن هو الحفاظ على كراسيها وصيانة الاستقرار الوزاري، والابتعاد عن مواجهة «الفيلة»، والاقتصار على ضرب المعطلين، وإبراز العين الحمراء في وجه المستضعفين... سنرى قبل أن نحكم. الآن لنرجع إلى صلب الموضوع وهو التالي: من أين جاءت 80 ألف درهم التي أخذها مزوار بتوقيع بنسودة يوم 28 أبريل 2010؟ ولماذا أتى توقيع مزوار لنبسودة 24 ساعة قبل حصوله على تعويض خيالي ب100 ألف درهم شهريا من توقيع هذا الأخير لوزيره؟ هذه التعويضات تأتي من الحسابات الخصوصية أو ما يسمى إعلاميا ب«الصناديق السوداء»، وهي حسابات لا تخضع لأية مراقبة، ولا تدخل في حسابات الميزانية، ولا يراها أحد، بما في ذلك بعض وزراء المالية، ولهذا فإن أموال هذه الصناديق أموال سائبة... إذا رجعنا إلى القرار الذي وقعه وزير المالية، صلاح الدين مزوار، فسنجد أشياء غريبة فعلا، مثل أن قرار الوزير لا يحمل أي رقم تسلسلي وكأنه وثيقة سرية، وهذا ليس عيبا في الشكل، ولا سهوا من وزير مؤتمن على بيت مال المغاربة. أبدا، القراران المنشوران في «أخبار اليوم» غير مرقمين عن قصد حتى يسهل التخلص منهما، وحتى يظلا في منأى عن نظام الأرشيف في الوزارة... وهذه لوحدها فضيحة في بلاد ترفع شعار «الحكامة». الآن نمر إلى «تحريف» آخر للنقاش يقوم على أن الوثائق المنشورة في «أخبار اليوم» وثائق سرية في ملك الإدارة ولا يجب أن تخرج للرأي العام، وأن أطرافا سياسية تقف وراء تسريبها لإضعاف المعارضة... يا سلام! هناك من يردد هذا الكلام بوعي من يريد إبعاد النقاش عن جوهره، وهناك من يردده ببلادة من لا يعرف عما يتحدث. للاثنين نقول: أولا، ما نشرناه ليس وثائق سرية، وليس أسرار دفاع أو أمن. النشر يدخل تحت بند الحق في المعلومة وشفافية الإدارة، والذين وقعوا هذه الوثائق هم أنفسهم لم يضعوا فوقها «سري»، فكيف يردد البعض هذه الترهات؟ ثانيا، حتى إن كانت عملية تسريب هذه الوثائق تتعلق بإفشاء سر مهني –وهذه الوثائق ليست سرا- حتى لو ذهبنا في هذا الاتجاه، فإن القانون الجنائي المغربي يقول: «خلافا لأي مقتضيات قانونية، لا يمكن متابعة المبلغين، سواء تأديبيا أو جنائيا، على أساس إفشاء السر المهني، إذا كانت الجرائم المبلغ عنها تم الاطلاع عليها بمناسبة مزاولتهم لمهامهم». حكاية التسريب نقبلها ممن يجهل الصحافة وقواعد عملها، لكن من يشتغل في هذه المهنة يعرف أن كل التحقيقات التي هزت العالم أصلها تسريبات وثائق معلومات وتسجيلات من أشخاص دفعهم ضميرهم أو مصالحهم أو صراعاتهم إلى الكشف عن معلومات حساسة. والسؤال هو: هل هذه الوثائق صحيحة أم لا؟ أما مصدرها فلا يهم إطلاقا، فتوقيت النشر قرار غير سياسي ولكنه قرار مهني، ومتى اكتملت «الحقيقة» لدى الصحافي، فهو ينشر بغض النظر عمن سيستفيد ومن سيخسر بسبب النشر. هذه هي قواعد المهنة.