في السياسة، والسلطة تحديدا، لا يختار المرء بين القرار الجيد والقرار السيئ. لو كانت السياسة أسود وأبيض لما احتاج الناس إلى السياسيين وإلى الخبراء وإلى المؤسسات. في السياسة نختار بين القرار السيئ والقرار الأكثر سوءا. والسياسي الذكي والمحنك هو من يعثر على القرار الأقل سوءا ويطبقه، ثم يحاول إقناع الرأي العام بأن ما قام به «عملية جراحية» مؤلمة لكنها ضرورية، وأن آثارها السلبية الآن ستتحول إلى نتائج إيجابية غدا... السياسة اختيارات وتواصل دائم، وحجج قوية، وقدرة على الإقناع، وتحمل للمسؤولية... رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، لأول مرة، يجد نفسه وجها لوجه أمام الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى، وهو يقول لهم: «لقد قررت الزيادة في أثمنة المحروقات وذلك لربح خمسة مليارات درهم في السنة، أي 10% من كلفة صندوق المقاصة الذي يأكل 50 مليار درهم سنويا من الميزانية العامة تتجه لدعم المحروقات والسكر والدقيق»... الوزير المنتدب في وزارة المالية، إدريس الأزمي، قال إن الحكومة كانت مضطرة لإقرار هذه الزيادة الصغيرة لأن أعباء صندوق المقاصة صارت فوق الاحتمال، وإصلاحه يتطلب وقتا، والوضعية الحالية لا تحتمل الانتظار... طيب، دعونا نقول إن مضمون القرار صحيح لكن توقيته خطأ. كان على الحكومة أن تقدم حزمة إصلاحات «package de réformes» إلى المغاربة، والفقراء منهم خاصة، وليس فقط اللجوء إلى القرار السهل بزيادة ثمن المحروقات على الجميع: طاكسيات وحافلات وشاحنات ودراجات نارية وسيارات اقتصادية وأخرى فاخرة... هذا القرار يعطي الانطباع بأن الحكومة «تحكر» على الفقراء، وتخاف الأغنياء والحيتان الكبيرة التي عجزت الحكومة عن تمرير ضريبة على ثرواتها الكبيرة، كما عجزت إلى الآن عن مس امتيازاتها غير المشروعة، والاقتراب من قلاع «ريعها» الذي لا ينحصر في «الكريمات»، بل يتعداه إلى اقتصاد أسود أكل ويأكل أجود أراضي الدولة، ويحتكر التجارة والصناعة في قطاعات حيوية دون منافس، ويستولي على نظام معقد من الرخص الاستثنائية، ويخرق بشكل منتظم قوانين الاستيراد ويحرم خزينة الدولة من المليارات كل شهر، ويتهرب بتقنيات مبتكرة وشيطانية من أداء الضرائب، ويغش بتواطؤ مع الإدارة في الصفقات العمومية، ويتلاعب بقواعد الشفافية في كل مناحي الحياة الاقتصادية. الدولة تخسر سنويا من هذه الممارسات أضعاف ما تدفعه في صندوق المقاصة الذي لا يستفيد منه الفقراء، ولهذا كان على حكومة بنكيران أن تعلن قرار الزيادة في المحروقات مصحوبا بإجراءات أخرى للنهوض بأوضاع الفقراء والمهمشين، وفي مقدمة هذا النهوض وضع خطة استعجالية للتشغيل، وتوزيع الدعم المادي على المتضررين من تحرير أسعار المحروقات والسكر والدقيق، وحماية المستهلك عن طريق تقوية آليات الرقابة على المضاربات، وجعل المنافسة خطا أحمر، والاحتكار خطيئة لا تغتفر... وقبل هذا وبعده، الاقتصاد في المغرب يحتاج إلى «سيروم» عاجل لتوسيع الكعكة، وتجنب آثار الأزمة الاقتصادية المحيطة بنا. إن بلادنا محاطة بحرائق سياسية واقتصادية، قادمة من عالم عربي يغلي، ودول أوربية تحتضر، ونحن نتفرج.