أسالتْ عودة المغرب إلى البيت الإفريقي الكثير من المداد؛ فمنها من أصابت التحليل، ومنها من جانبته… كما تسربت الكثير من المغالطات المتسرعة سواء بقصد أو بدونه وقع فيها البعض دون البحث عن « أسباب النزول » أو ربط الأحداث بسياقها التاريخي؛ وهو ما جعلها بعيدة عن الموضوعية وقريبة من كل « هذيان فكري ».. لأننا بهذا نكون في تماهٍ مع أقلام البوليساريو، في حين أن الأمر لا يحتاج إلى إظهار قدرات خارقة في التحليل.. واختلاق فرضيات لا تعترف بها أحداث التاريخ.. فانسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية في 12 يونيو 1984 كان في ظل سياق تاريخي خاص، وطلب عودته إلى منظمة الاتحاد الإفريقي في سبتمر 2016، تم في سياق تاريخي خاص أيضا… مما يجعل هامش المغالطة التاريخية ضيق جدا…! اعترف الأعداء قبل الأصدقاء بالذكاء والدهاء والبصيرة السياسية للمغفور له الملك الحسن الثاني. لذلك، يُنصح بإعادة قراءة « رسالة الانسحاب » التاريخية أكثر من مرة، حيث تحضر القراءة القوية للحظة التاريخية، وأيضا نلمس مرارة فراق الرفاق والإخوة الأشقاء؛ فإعلان انسحاب المغرب من منظمة الوحدة، في يونيو 1984، لم يكن صدفة تاريخية، بل كان نتيجة لمسلسل مليء بمشاهد « تآمرية »… »لتحريف بعض مقتضيات ميثاق منظمة الوحدة بكيفية ظرفية أو لمصلحة خسيسة ويدفع بمنظمة الوحدة إلى الهلاك وبأعضائها إلى الاقتتال ».. إن انحراف « لجنة تنسيق الحركات التحرر الإفريقية » التابعة لمنظمة الوحدة عن هدفها الأصلي، وتحكم أطراف معينة في توجيه أشغالها تحت خلفيات إيديولوجية معينة أسهم في خلق أجواء التحريف والتضليل وصل مداه إلى خلق « لجنة خاصة » تتكون من 5 أعضاء، وبضغط جزائري خُلقت « لجنة فرعية » تتكون من عضويْن من مالي ونيجيريا، ثم إنشاء « لجنة الحكماء ». فعادة مثل هاته الآليات يكون الهدف منها هو التسوية السلمية للنزاعات؛ لكن في حالتنا كان باطنها استهداف الوحدة الترابية المغربية ولعبت دور الخصم والحكم… والدليل هو أن كل الخلاصات والتوصيات الصادرة عن اللجنة كانت خاضعة لمحور الجزائر؛ بل سمحت اللجنة لأعضاء البوليساريو بالحضور لأشغالها…!! « المصلحة الخسيسة » ستدفع بتقديم طلب عضوية البوليساريو لمنظمة الوحدة الإفريقية في يونيو 1980 بسيراليون، وبحضور قليل لم يتجاوز 24 دولة فقط…!! كانت كل الإشارات تدل على قُرب انفجار المنظمة من الداخل، خاصة عندما أعلن عن البوليساريو كعضو بها في 1982 بأديس أبابا أثناء اجتماع لجنة المتابعة في فبراير 1982، حيث انقسمت المنظمة إلى فريقيْن متعارضيْن… وانسحبت 19 دولة إفريقية من أشغال اللجنة احتجاجا على خرق ميثاق منظمة الوحدة لسنة 1963، بغياب الشرطين المضمنين في الفقرة الرابعة من الميثاق، أي الاستقلال والسيادة في كيان البوليساريو. وحسب المرجعية القانونية، فالبوليساريو لا يتوفر على خصائص الدولة أي شعب / السيادة / حدود… وسلطة داخلية على أراضيها وبدون توجيهات خارجية؛ وهو ما لا يتوفر في كيان البوليساريو إلى حد اليوم. لذلك، لا تعترف به الشرعية الدولية، وهو ما عبر عنه أيضا المغفور له الحسن الثاني « بتقويض أركان الشرعية… » وضرورة احترام الفصل الرابع وممارسة السياسة بالأخلاق والفضيلة… سيراوغ البوليساريو بغياب تكتيكي عن قمة 1983 تاركا المجال لحاضنته الجزائر للمناورة وحشد المواقف بكرم حاتمي، خاصة وآنذاك وصل سعر البترول إلى عنان السماء….! لكن في قمة أديس أبابا سنة 1984، وبعد استنفاد كل طرق التوافق، فإن المغرب اختار طريق الانسحاب تفاديا لتأزيم الوضع وتمزيق المنظمة التي كان المغرب أحد مؤسسيها سنة 1963.. لم يكن هروبا ولا هزيمة، بل كان انسحاب الأذكياء من لُعبة ماكرة وانتصارا للفضيلة والشرعية، كان الهدف منها هو استنزاف المغرب وهو في لحظات عصيبة تميزت بأزمات اجتماعية (إضرابات..) وصراع سياسي داخلي (ميثاق جماعي وانتخابات…) وتقلبات مناخية قاسية (جفاف طويل) واقتصادية (ارتفاع المديونية وسياسية إعادة التقويم الهيكلي). الاحترام الدائم للمشروعية واستحالة تنفيذ البقاء على الحدود الموروثة عن عصر الاستعمار جعلا المغرب ينسحب في انتظار الحكمة والتعقل.. وهو بهذا يُعلن عن فشل المنظمة القارية في تدبير نزاع إقليمي ليتم نقله الى مستوى إشراف دولي… وأن الانسحاب لا يعني انغلاق المغرب غلى نفسه، بل سيشتغل على مستويات أخرى تم سردها في رسالة الانسحاب، أي الجامعة العربية وعدم الانحياز والمؤتمر الإسلامي والأممالمتحدة…. مع الإشارة إلى أننا كمغاربة سنظل دائما في خدمة إفريقيا.. ومن ثم، أغلق المغرب جولته مع منظمة الوحدة الإفريقية.. ولأنه لكل حادث حديث، فقد كانت « رسالة العودة » في يوليوز 2016 لجلالة الملك محمد السادس إعلانا عن جولة جديدة مع منظمة الاتحاد وريثة الوحدة الإفريقية (سنة 2002 )… جولة لها سياقها التاريخي الخاص بعد 32 سنة من الغياب الاضطراري عن البيت الإفريقي… لقد وصف جلالته المرحلة السابقة في تدبير المنظمة الإفريقية ب »المراهقة السياسية »، وقد استجاب لتوقيت « في انتظار أن يتغلب جانب الحكمة والتعقل… » حيث سحبت أو جمدت العديد من دول إفريقيا اعترافها بالبوليساريو.. وتطور ثقافة حقوق الإنسان بإفريقيا وتقوية دور المجتمع المدني وغياب بعض الوجوه عن الساحة الإفريقية حيث كانت تسمى منظمة الوحدة « بنادي الدكتاتوريين »… جولة اتسمت بتجديد العلاقات الدبلوماسية والقنصلية مع دول إفريقية، وتقوية علاقات اقتصادية مع أخرى وتحسين حياة الشعوب الإفريقية من خلال مشاريع تنموية جعل الأفارقة يملؤون شوارع مدنهم لاستقبال جلالة الملك محمد السادس خلال جولاته في تماه مع مضمون « رسالة الانسحاب » بأن المغاربة سيظلون في خدمة إفريقيا.. المغرب وهو يُقْدم على إجراءات العودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، ليس هو مغرب الثمانينيات… مغرب اليوم يعرف انفتاحا سياسيا وارتقاء اجتماعيا وتقدما حقوقيا وإعلاميا، وبتماسك لُحْمته الداخلية بكل مكوناتها حول المقدسات الوطنية… كل هذا يسمح بطلب العودة التي لا تعني التسليم في الوحدة الترابية، كما عبرت عنه رسالة قمة كيغالي يوليوز 2016.. فالمغرب، اليوم، في وضع يجعله قادرا على تدبير جولة قانونية جديدة للدفاع عن صحرائه من داخل هياكل منظمة الوحدة الإفريقية، باعتبارها منظمة إقليمية تعترف بها الأممالمتحدة.. كما أن تفاقم الأوضاع الداخلية لخصوم الثمانينيات أفقدتهم الكثير من قوة تأثيرهم على دول إفريقيا الطامحة شعوبها إلى السلم والعيش الكريم وليس الزج بهم في نزاعات مجانية… بالإضافة إلى تغيير في ملامح العلاقات الدولية وانتهاء الحرب الباردة وتغيير التكتلات الإيديولوجية والاقتصادية…. وهذا هو « الشق المتحول » في تدبير النزاع داخل المنظمة… أما « الشق الثابت » فهو لا مشروعية ولا شرعية عضوية كيان البوليساريو، حسب مرجعية القانون الدولي وأيضا ميثاق منظمة الوحدة لسنة 1963، حيث تتطلب العضوية شرطي الاستقلال والسيادة؛ وهو ما سعتْ إليه منظمة الاتحاد عبر الالتفاف عليه من خلال الفصل ال29 بقوله « يجوز لأية دولة إفريقية…. » ساقطة بذلك شرطي الاستقلال والسيادة.. وبالرغم من ذلك فإن مقومات الدولة الإفريقية لم تتوفر بعد في كيان البوليساريو.. كما لم يفوت مهندسو ميثاق الاتحاد الإفريقي فرصة تلغيم الفصل ال4 بإقحام قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار، كنص في الميثاق بعد أن كان فقط توصية وقرارا في قمة القاهرة يوليوز 1964… والجدل حول الفصل ال4 ليس وليد اليوم؛ بل عرفت مسألة قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار جدلا قانونيا وفقهيا وفي أكثر من هيئة مختصة، خاصة أنه أثناء صدوره كان العديد من الدول الإفريقية تُقاوم من أجل نيل الاستقلال وتصفية الاستعمار؛ فالمغرب آنذاك كان يسترجع إقليمسيدي إفني والصحراء المغربية، والصومال كانت في صراع مع إثيوبيا حول منطقة الأوجادين…لذلك، قدم كل من الصومال والمغرب تحفظا على مبدأ قدسية الحدود؛ وهو ما أكدته رسالة الانسحاب من جديد بتساؤل استنكاري حول إمكانية « تنفيذ الفصل، الذي ينص على بقاء الحدود الموروثة عن عهد الاستعمار على أصلها ». الخصوم يصرون على مصطلح الانضمام ونحن نقول العودة؛ لأن الاتحاد الإفريقي هو المكان الطبيعي للمغرب، لأن « المغرب إفريقي بانتمائه ». كما أن كل الأوراق التحضيرية لخلق منظمة الاتحاد تصف مؤسسي منظمة الوحدة بالآباء المؤسسين وتشيد بهم، ومنهم المغرب وبالتالي لا يمكننا وصف عودة الأب إلى أسرته بالانضمام…!!! لذلك، قلنا في البداية يجب استحضار السياق التاريخي لكل خطوات التدبير، سواء الانسحاب أو العودة إلى المنظمة الإفريقية؛ لأن البوليساريو أُعْلنت رسميا عضوا في منظمة الوحدة منذ 1982 وانسحب المغرب سنة 1984 فهل هذا يعني أن المغرب قد اعترف بالبوليساريو طيلة السنتين الاثنتين؟ لن تُغير عودة المغرب إلى المنظمة الافريقية من ثوابت المغرب المقدسة، بل ستكون مناسبة جديدة بعد « استراحة محارب » للدفاع عن الشرعية القانونية والدولية… فأرشيف ملف تدبير الصحراء المغربية يتضمن أيضا التحفظ على مبدأ قدسية الحدود منذ 1964 وتم تأكيد التحفظ ضمنيا في رسالة الانسحاب في 1984.. وما دام الاتحاد هو وريث منظمة الوحدة، فإنه ورث أيضا كل التحفظات والإعلانات التفسيرية؛ ومنها تحفظ كل من الصومال والمغرب.. وبما أن ميثاق الاتحاد الإفريقي لا يشترط وجود علاقات دبلوماسية وقنصلية بين الدول الأعضاء لسريان المعاهدة، فإنه لن يكون هناك اعتراف مغربي بالبوليساريو، بالرغم من العودة.. لقد صدقت نبوءة المغفور له الحسن الثاني، بأنه « سيأتي يوم يعيد فيه التاريخ الأمور إلى نصابها ».. لذلك، لم نهضم مسألة مساهمة بعض مُثقفينا الذين نكن لهم كل الاحترام عن غير قصد طبعا، في نشر مغالطات وتصورات من هندسة أقلام البوليساريو وجنرالات قصر المرادية وترديد أفكار تُشوش على الإجماع الوطني؛ لأننا نعتبر أن الانتصار للقضايا الوطنية والدفاع عنها واجب دستوري أولا وأخيرا…