نعمة الإحساس بالألم، عبارة قد تبدو غريبة نظرا لما اعتاده الإنسان من نفور طبيعي من كلمة الألم، لكن هذه اللفظة يود كثير من بني البشر شراءها بالملايين، لا يعرفون معنى الألم ولم يدركوا في حياتهم ماهية هذا الإحساس، فترى الواحد منهم يأكل أطراف أصابعه والابتسامة بادية على محياه، وآخر يطعن نفسه دون أدنى ردة فعل، بعضهم دفعته الحاجة لتقديم عروض خطيرة في السيرك قصد إسعاد الناس ولو كلفه ذلك حياته، حياة تسلب خلسة دون سابق إنذار. مرض عدم الإحساس بالألم أوCongenital insensitivity to pain المعروف اختصارا ب (cip)وهو حالة تنتج عن عدم تشكل الألياف العصبية للجسم الثفني في الدماغ، مما يسبب انقطاعاً في نقل الإشارات بين نصفي الدماغ، وبالتالي عدم تفسير إشارات الألم والاستجابة لها بالشكل الطبيعي. والجسم الثفني هو عضو يربط بين شقي الكرة المخية ويشار إليه أيضا باسم «الحاجز». الجسم الثفني مبني من مجموعة من الألياف العصبية على شكل قرن موز. له أهمية وظائفية كبيرة متعلقة بوظائف التفكير المختلفة. كشفه أثناء اختبارات الحمل هو مؤشر هام آخر على عملية التطور الطبيعي لمخ الجنين. هذا التطور ينعكس في الفعاليات ذات الصلة بالقدرة على التعلم والذاكرة. ويبدأ كشف تطور الجسم الثفني من الأسبوع 12 وحتى الأسبوع ال20 من الحمل. المصابون بهذا المرض النادر لا يتعرقون ولا يشعرون بالألم أو بدرجة حرارة الجو أو حرارة أجسادهم مهما كانت، مما يجعلهم عرضة لمختلف المخاطر والأمراض، ونظرا لعدم انتشار هذا المرض، لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة للمصابين به، اللهم تقديرات تتحدث عن وجود 100 حالة حول العالم منها 35 حالة بالولايات المتحدةالأمريكية فقط، وترجع أولى الحالات التي تم رصدها في السجلات الطبية إلى سنة 1932، إذ كان المصاب يعمل في سيرك يتوسد لوحا من المسامير لإبهار المتفرجين…! بيد أن بعض الباحثين تحدث عن حالات ذُكرت في القرون السابقة. بالنسبة للمغرب ذكرت وزارة الصحة في اتصال معنا أنه تم تسجيل حالتين سنة 2008 في الجهة الشرقية، كما سجل المستشفى الجامعي بفاس حالتين في السنوات العشر الأخيرة. بشر لا يتألمون لم تتصورخديجة يوما أن ابنتها ذات العشر سنوات، ستحمل لها مفاجأة سارة في ظاهرها لكن باطنها من قبله العذاب، لم تكن نسرين تبكي لما يبكي له الأطفال عادة، كانت تملأ البيت مرحا والسعادة تغمرها وهي تركل الأثاث أو أدوات المطبخ، تحكي الأم عن ولادة هذه المعاناة فتقول: «ولدت نسرين ولادة طبيعية ولم يكن فيها ما يقلق أو يدعو للريبة، غير أنه في السنة الثالثة بدأنا نلاحظ أشياء غريبة، لم تصرخ الطفلة يوما رغم سقوطها المتكرر أو ارتطامها بالحائط، سررنا لأول الأمر وخلنا أنها نعمة أصابتنا ففرحنا بها أيما فرح، ولم ندر أن المستقبل يواري شيئا عجبا، في صباح يوم جمعة ماطر استيقظت باكرا كعادتي وهممت بإعداد الفطور، لكن قبل ذلك اتجهت صوب غرفة نوم طفلتي لأطمئن عليها كما كل يوم، فصدمت من هول ما رأيت، تدحرجت نسرين من على السرير فكسرت ذراعها اليمنى دون أن تتفوه بكلمة! هرعت مسرعة لأخبر زوجي الذي قام فزعا من النوم، مباشرة بعدها توجهنا إلى مصحة خاصة، ورغم توفر جميع الأجهزة الطبية وثقتنا في الطبيب المسؤول إلا أن الأمر شق عليه في البداية وأثار استغرابه، فأقر أنها أول حالة من هذا النوع تعرض عليه منذ أن اشتغل طبيبا ! بعد ساعة من التشخيص وطرح الأسئلة اهتدى إلى أن ابنتنا مصابة بمرض عدم الإحساس بالألم الخلقي، وقفت وزجي حائرين مذهولين نسترجع لحظات الماضي ونجيب على كثير من الأسئلة التي ظلت غامضة». ما سردته خديجة من ألم وشقاء حاصل رغم توفر الوعي ويسر الحالة المادية، فما سبيل من حاصره المرض والجهل والحاجة؟ بين مطرقة الفقر وسندان المرض تعيش أسرة محمد وصفاء وهما طفلان مصابان بمرض عدم الشعور بالألم، أعجزت أبويهما قلة ذات اليد وانعدام الوعي بالمرض، وما زاد الأمر صعوبة عيش الأسرة في منطقة الطائفة النائية التابعة لعمالة تازة، حيث التهميش والإقصاء وحيث طفلة صغيرة قضمت أطراف أصابعها دون أن تحس، تحكي الأم عن معاناتها بنبرة حزينة «أفر كلما تذكرت ما أنا فيه من النكد خارج البيت وأبكي، ثم أعود وكل أملي معلق بالله تعالى» تواصل حديثها باكية «أليس في الناس رجل رحيم؟ ألا يوجد مسؤول يخفف من معاناتنا؟ كل الأبواب أوصدت في وجوهنا، رغم علمنا أن المرض ليس له علاج فأمل التخفيف منه أو إيجاد حل ما خارج المغرب يظل واردا، لكن ما من أحد ساعدنا ونحن الفقراء الذين لا يكترث لهم أحد» أم الطفلين يبدو جليا من ظاهرها ومن كلامها أنها ضربت في الصبر حتى خبرته، وعلمتها قساوة الحياة أنه لا استسلام مع وجود الأمل، لكن ضعف الإنسان الطبيعي وتكالب النوائب عليها أنهكا قواها فأردياها عاجزة تقاوم وحيدة مرضا نادرا ليس له علاج. مسؤولو الصحة أكدوا استحالة العلاج والأسرة الفقيرة التي تعتمد الفلاحة المعيشية مورد رزق وحيد لم تجد بدا من وقف رحلة العلاج. إدريس البدوري، أب الطفلين، يئس تماما من طرق أبواب المستشفيات والإدارات فحديثه إلينا كشف عن جرح غائر يسكن الرجل يوشك أن يهلكه لولا أمله في الله، يقول مغالبا دموعه: «الذي لا يقبله العقل هو صم المسؤولين آذانهم وغلقهم الأبواب في وجوهنا، وعدم استماعهم حتى لجزء من معاناتنا !أفقدوا الإحساس أم هم ليسوا بشرا؟ عرضت الحالة على وزير الصحة السابق محمد الشيخ بيد الله فقال لي : ماذا تريدني أن أفعل لك ؟ يئست من طرق أبواب المستشفيات والإدارات، ابني محمد طردوه من المدرسة بسبب المرض وتفاقمت حدة مرضه أكثر، ولولا التفاتة من أشخاص إماراتيين لحل بنا ما الله به عليم، فبعد مشاهدتهم لمقطع من معاناة طفلينا قدموا إلى المغرب واشتروا لنا منزلا متواضعا وسط المدينة نعيش فيه إلى اليوم، أتوجه إلى مستشفى فاس فيعطونني موعدا بعد ستة أشهر، أي حتى يأكل الصبي جميع أطرافه، هذا إلى جانب رفض كل الجمعيات التي لجأنا إليها منحنا بطائق انخراط». أفق موصد وسط ركام مهول من الأمراض والأوبئة داخل مستشفى ابن رشد بالدارالبيضاء، لا تكاد تجد أثرا للمرض المذكور، بل يوشك جميع الأطباء والأساتذة الأطباء أن يجهلوا طبيعته لولا مسؤولة واحدة عن الأطفال عرضت عليها من قبل حالة تعاني عدم الإحساس بالألم، لكنها بالكاد تملك تعريفا علميا له، طبيب واحد كان قادرا على الإفادة بطبيعة المرض أو الإحالة على حالات محددة مصابة به قيل إنه تقاعد فبقي المنصب فارغا !. جل الأمراض النادرة والتي لا يخلو المغرب من مصابين بها يعجز أطباؤنا عن تشخيصها وإدراك ماهيتها، فضلا عن إيجاد علاج لها، وقد أكد البروفيسور عمر بطاس المسؤول عن وحدة الاستشفاء بمركز الطب النفسي في مستشفى ابن رشد بالدارالبيضاء قال إنه «في كليات الطب تدرس فقط الأمراض والاضطرابات الشائعة المعروفة، ناهيك عن قلة سنوات الدراسة التي لا تسمح بالتعرض لجميع الأمراض، إلى جانب ذلك، فالجهد المادي والمالي الذي تخصصه الدولة للتحسيس بأمراض ما أو محاربتها ينصب أساسا على تلك التي تطرح مشكلا للسكان والمرتبطة بفئة عريضة من المجتمع». أضف إلى ما سبق عدم وجود إطارات مدنية أو جمعيات تعنى بمثل هذه الأمراض، فهي نادرة ندرة المرض. بديعة لعتيق رئيسة «جمعية التغلب على أمراض الليزوزوم بالمغرب» وهي من الأمراض النادرة الوراثية، تقر بحصول نقص مهول على مستوى الأدوية والكلفة الباهظة للتشخيص ومواكبة العلاج إن وجد طبعا، «هناك مجموعة من التحديات والإكراهات فيما يتعلق بالأمراض النادرة بالمغرب انطلاقا من صعوبة تشخيصها والولوج لعلاجها وكذا التكلفة الباهظة لدوائها، مع العلم، تضيف، أن عدد وفيات هذه الأمراض في ارتفاع مستمر، فعلى سبيل المثال سجلت جمعيتنا خلال شهر واحد وفاة طفل وطفلة بعد معاناتهما من مرض الليزوزوم، الذي يدعى بمرض « HURLER ». وزارة الصحة*: لا تزال العديد من الأمراض النادرة غير معروفة عند المهنيين الصحيين وهذا هو سبب التشخيصات غير الصحيحة – هل لوزارة الصحة استراتيجية متبعة لمحاربة الأمراض النادرة ؟ في المغرب لا توجد إحصائيات دقيقة، ولكن قد يفوق عدد الحالات 2 مليون مغربي مصاب بالأمراض النادرة، التي تمثل هاجسا خطيرا بالنسبة السكان في بلادنا. ومن هذا المنظور، وضعت وزارة الصحة من ضمن البرامج الصحية الجديدة التي قامت بإنشائها وتفعيلها في الخطة الاستراتيجية 2012 – 2016 برنامجا وطنيا للسيطرة على الهيموفيليا واضطرابات تخثر الدم، وبرنامجا للوقاية والسيطرة على مرض الثلاسيميا والاضطرابات الأخرى للهيموكلوبين، لكونهما من بين الامراض النادرة الأكثر انتشارا والمعروفة حاليا، معتمدة في ذلك مقاربة تشاركية بتعاون مع مختلف المتدخلين، خصوصا الكفاءات العلمية والمجتمع المدني والمدبرين والعاملين في مجال الصحة. وتهدف هذه البرامج إلى خفض معدلات الاعتلال والوفيات والإعاقة الناتجة عن هده الأمراض وتحسين جودة الحياة لهؤلاء المرضى، وذلك بأخذ عدة إجراءات وتدابير أهمها: – تحسين الولوج إلى الخدمات الصحية وتنظيم مسالك العلاج لأمراض الدم: – جعل المراكز الاستشفائية الجامعية مراكز مرجعية لعلاج مرض الهيموفيليا والثلاسيميا (الرباط – الدارالبيضاء- – إحداث 10 وحدات إقليمية لعلاج هذه الأمراض (الحسيمة – أكادير- مكناس – تطوان – القنيطرة – وجدة – بني ملال – العيون – أسفي وفاس)، – تطوير آليات التنسيق بين المراكز المرجعية والمراكز الجهوية. – تحسين فرص الحصول على علاج الأمراض النادرة والمتكفل بها: – دمج الأمراض النادرة ضمن قائمة الأمراض المزمنة ( ALD وALC) ، – توفير الأدوية اللازمة لعلاج مرض الهيموفيليا ومرض الثلاسيميا، – توفير الدم الخاص بمرض الثلاسيميا (sang phénotypé déleucocyté) بالمركز الوطني و8 مراكز جهوية لتحاقن الدم، – اقتناء لوازم التصفية (filtres médicaux) للمركز الوطني والمراكز الجهوية لتحاقن الدم، – تكوين العاملين الصحيين من أطباء وممرضين ومسؤولين عن مراكز الدم الإقليمية، في جميع الوحدات ومراكز علاج الهيموفيليا والثلاسيميا على الصعيد الوطني. – تطوير السجل الوطني لمرضى اضطرابات تخثر الدم وhémoglobinopathies؛ – تحسين الولوج للاستشارة الوراثية والتربوية؛ – تطوير الشراكة مع الأطراف المعنية، الوطنية والدولية، في مجال الهيموفيليا وغيرها من اضطرابات تخثر الدم وhemoglobinopathies؛ – تنظيم حملات التوعية للتربية والتواصل؛ – توعية وتحسيس المرضى وأسرهم وعامة السكان حول مرض الهيموفيليا ومرض الثلاسيميا، – تنظيم ورش عمل وتوعية المهنيين الصحيين، – تشجيع إنشاء جمعيات المرضى الذين يعانون من الأمراض النادرة خاصة مرض الهيموفيليا ومرض الثلاسيميا، – إلى أي حد توفر الوزارة أدوية لهذه الأمراض ؟ أصبحت الوزارة، منذ أن أدرجت ضمن برنامجها الاستراتيجي سياسة وطنية للسيطرة على اثنين من الأمراض النادرة، في إطار البرنامج الوطني لمكافحة الهيموفيليا والبرنامج الوطني للوقاية والسيطرة على مرض الثلاسيميا، تعمل على توفير الأدوية الضرورية لعلاج المرضى المصابين بمرض الهيموفيليا، وقد تمت مضاعفة الميزانية المخصصة لعامل مضاد الهيموفيليا من 7 ملايين درهم سنة 2009 إلى 10 ملايين درهم سنة 2012 وفي 2013 خصصت الوزارة مبلغ 12 مليون درهم لشراء العامل المضاد للهيموفيليا. بالإضافة إلى هذه الأدوية، هناك أيضا العامل الثامن والتاسع المستخرج من البلازما الموفر من قبل المركز الوطني لتحاقن الدم، ويعمل نفس المركز على رفع كمية البلازما المخصصة للتجزئة لصنع العاملين الثامن والتاسع. اما فيما يخص مرضى الثلاسيميا، فقد تم اقتناء لوازم التصفية (filtres médicaux) للمركز الوطني والمراكز الجهوية لتحاقن الدم وكذلك اقتناء (les chélateurs de fer)، حيث تم تخصيص مبلغ 15 مليون درهم لشراء (les chélateurs de fer) لعلاج هؤلاء المرضى. – هل صحيح أن معظم الأطباء يجهلون كثيرا من هذه الأمراض ؟ فعلا لا تزال هذه الأمراض غير معروفة بصفة كافية لدى المهنيين الصحيين، وهذا الجهل يكون وراء إعطاء تشخيصات غير صحيحة ويزيد من معاناة المرضى وذويهم، كما يكون سببا في التأخر في رعايتهم. فهناك أكثر من 7000 مرض نادر، وهناك مجهود يجب أن يبذل في هذا المجال، شأننا شأن العديد من الدول. *مديرية الأوبئة ومحاربة الأمراض بوزارة الصحة