ما يعانيه إقليم كردستان العراق من معضلات الفساد والإستفراد بالمال، واحتكار السوق، وشراء الولاء السياسي والسيطرة على الجهاز القضائي، وتسييس مؤسسات الأمن والعسكر والشرطة، لا يختلف عما تعانيه البلدان العربية والآسيوية والأفريقية التي لا تتردد عن التلويح للقوة كلما ضاقت مساحة الإستفراد بالمجتمع والدولة. دون العودة إلى تلك المفاهيم السياسية والفكرية السائدة التي تريد للديمقراطية مقدمات ثقافية وقيمية ومجتمعية، يمكن وصف النظام السياسي في الإقليم بالديموقراطية العالقة في الأنفاق، ذاك أنها تفتقد لأهم ثلاث ركائز في أي نظام ديمقراطي في العالم وهي: قضاء مستقل، جهاز شرطة وجيش مهني، وإعلام مستقل ومهني. يفهم البعض في كردستان – والنخبة السياسية لا تذهب أكثر من ذلك- بأن مساحة الحرية المتوفرة وإمكانية إجراء الإنتخابات النيابية والبلدية، و"الرئاسية" ضمناً، وتشكيل حكومة بالمحاصصة الحزبية هي الشكل المقنع للديموقراطية. ويذهب قسم آخر إلى تصورات بالية ترى في تبديل الأدوار السياسية مفتاحاً لتأسيس النظام الديموقراطي. وقد وفّر انشقاق الرجل الثاني في الإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني نوشيروان مصطفى هامشاً واسعاً للتصور الثاني عام 2009 حين أسس (حركة التغيير) وأصبحت القوة السياسية الثالثة بعد الحزب الديموقراطي الكردستاني وحزب الإتحاد الوطني الكردستاني، ثم القوة الثانية بعد الإنتخابات الأخيرة في شهر أيلول 2013 وتراجع نفوذ الأخير، إنما لم تجتز الحركة الصورة النمطية التي قدّمها كل من الديموقراطي والإتحاد للحزب، إذ بدت مطابقة لصورة الحزب التقليدي الهرمي الذي يمسك بزمام أموره شخص واحد. من هنا يمكن القول بأن تجربة حركة التغيير قدّمت للمجتمع الكردي بعد تجربة مريرة من المناصفة الحزبية وتسييس الحياة المدنية والإجتماعية واقتتال الأخوة بين الوطني والديموقراطي في النصف الثاني من تسعينات القرن المنصرم، الأمل والإحباط في وقت واحد، لأنها ببساطة رسمت بورتريه لذاتها وفقاً لمحددات الواقع الحزبي الكردي وليس الواقع الإجتماعي. تالياً، يمكن الحديث في كردستان عن إشكاليات الحزب السياسي قبل الحديث عن الديمقراطية، ففي ظل وجود أحزاب لا تعتمد آليات ديموقراطية في هياكلها التنظيمية والإنتخابية والقيادية، لا يمكن تأسيس نظام ديمقراطي أو حتى إيجاد أرضية له. هناك في إقليم كردستان اليوم حيث يقارب عدد سكانه خمسة ملايين نسمة - ويوجد فيه إحتياطي كبير للنفط والغاز - أحزاب كثيرة متوزعة بين القومية والإشتراكية الديموقراطية والإسلامية والشيوعية – كما يمكن الحديث من دون مواربة عن وجود معاطف عائلية وفردية وشعبوية وأصولية داخل تلك الأحزاب-، أي أن هناك تعددية سياسية دون تعددية قيمية في الممارسة الحزبية. فالأحزاب الرئيسية الثلاثة في كردستان وهي (الديموقراطي الكردستاني، الوطني الكردستاني، حركة التغيير) هي نتاج انشقاقات وخلافات ومصالح فردية حول قيادة الحزب والمجتمع الكردي. وقد ظهرت أولى بوادر هذه النزعة الفردية والعائلية داخل الحزب الكردي بعد انهيار جمهورية مهاباد الكردية عام 1946 (عاصمتها مدينة مهاباد في الجزء الشرقي من كردستان إيران)، حيث أصبح التوريث الحزبي ملمحاً من ملامح السياسة الكردية، وما زال لهذا التوريث التأثير الواضح إذ يعيد إنتاج مفاهيمه وآلياته و "جماهيره" ضمناً. قصارى القول، يفتقد الإقليم اليوم إلى مؤسسات مستقلة ومهنية في القضاء والإعلام والجيش والشرطة، تالياً، لا يمكن الحديث عن الديموقراطية ودور فعّال لهذه المؤسسات التي يمكن وصفها بحاميات الحاضنة السياسية والإجتماعية في ممارسة الحرية والديموقراطية واختيار ممثلي المجتمع. مقابل ذلك ينشط الحزب داخل حقل هو حقل الدولة المتمثل بإيجاد الوظائف والبنى الخدمية والإستثمار والثروة البشرية...إلخ. ولا يستغرب أي متابع للشأن الكردي إن لاحظ توزيع الأراضي السكنية على الناس كوسيلة من وسائل شراء الولاء السياسي، ذاك أن هذا السلوك الذي كان يمارسه نظام البعث في ثمانينات القرن المنصرم إذ كان يمنح لعائلة كل قتيل في حربه مع إيران سيارة وقطعة أرض و20 ألف دولار بغية شرائها وتمليك ولائها، أصبح الآن في كردستان ثقافة سياسية، وصار من حق كل مواطن أن يملك قطعة أرض مقابل نضاله السياسي أو نضال والده أو أحد أقربائه، أو مقابل أدائه الوظيفي إضافة إلى راتبه الشهري. وفي السياق ذاته يمكن الحديث عن التنمية البشرية والنظام التعليمي في كردستان إذ لم تتم الإصلاحات في المدارس والجامعات رغم مرور أكثر من عقدين على إنهاء حكم البعث في المنطقة. وما عرف عن الجامعات العراقية منذ سبعينات القرن المنصرم، أنها انقطعت عن الأوساط الأكاديمية والعلمية في العالم وأصبحت الجامعة في العراق مكاناً للتمجيد والتعليم الحزبي بدل البحث العلمي وإعداد الكادر العلمي والإداري. باستثناء بعض الجامعات (الأهلية) الخاصة التي تم تأسيسها بعد عام 2003، لم ترتقِ الجامعات الحكومية في كردستان والعراق إلى مستوى البحث العلمي والإبداع، وقد وضعت حكومة إقليم كردستان عام 2010 برئاسة برهم صالح برنامجاً تعليمياً تحت عنوان "تنمية الطاقات البشرية" بالإتفاق مع الجامعات العالمية لخلق بنية تحتية بشرية وإيجاد سبل تنميتها في مجالات الإدارة والإقتصاد والعلوم والطب. إنما المشكلة بعد عودة الطلاب الكرد من الجامعات العالمية هي الدوران في فلك التوظيف الحكومي فيما تعاني الحكومة في الأساس من وفرة الموظفين، إذ تشير الإحصائيات إلى وجود مليون وثلاثمئة موظف من بين ما يقارب خمسة ملايين نسمة في الإقليم. في ظل هذا المشهد الذي حاولتُ رسم بعضٍ من ملامحه، وفيه وجود الحزب كبديل للحكومة في ما خص توفير فرص العمل -البطالة المقنعة-، واحتكار شركات البناء والأغذية والأدوية والنفط، يملكها ويديرها القادة الحزبيون أو الوكلاء لهم، يبرز سؤال عن جدوى الحديث عن الديموقراطية، فيما يعاني الإقليم من مشكلات بنيوية وسياسية مثل القضاء المسيس، وعدم وجود أجهزة شرطة وجيش، واحتكار الإعلام أو توجيهه في أحسن الحالات، وضعف أداء مؤسسات التعليم، ناهيك عن جيش من الموظفين يستهلك ميزانية سنوية ضخمة من دون مردود يذكر. النقطة الأخيرة هي وجود إحتياطي كبير من النفط والغاز في كردستان حيث فتح شهية الدول والشركات الكبيرة للبحث والتنقيب والحفر في مناطق كثيرة في الإقليم، وأقدمت الحكومة المحلية على إبرام عقود كثيرة مع شركات النفط العالمية. ويسأل الكثير في الأوساط المحلية الكردية عن مصير الإقليم في ظل اكتشاف إحتياطي نفطي قد يصل إلى 40 مليار برميل، هل يتسرب النفط إلى السياسة وجيوب رجالات السلطة بدل استثماره في التنمية البشرية والإقتصادية؟ سؤالٌ يسأله حتى بائع متجول في كردستان.