اقتحام صادم لثانوية ضواحي طنجة.. ومدير المؤسسة في العناية المركزة    بنعبد القادر يقدم "العدالة والتواصل"    الملك يهنئ أسود الأطلس لأقل من 17 سنة إثر فوزهم بكأس إفريقيا 2025    أنور آيت الحاج: "فخور بمغربيتي"    قناة إيرلندية تُبهر جمهورها بسحر طنجة وتراثها المتوسطي (فيديو)    تعيينات جديدة في مناصب أمنية    الطقس السيئ يغلق ميناء الحسيمة    تقدم في مفاوضات واشنطن وطهران    المغرب يُتوَّج بطلاً لكأس إفريقيا لأقل من 17 سنة بعد فوزه على مالي بركلات الترجيح    حماس تعلن أن مصير الرهينة عيدان الكسندر ما زال مجهولا    روابط مرتقبة بين ميناء كوبر السلوفيني وميناء طنجة المتوسط    هل تعلم كم يكلف فعلأ ما تشتريه؟ .. الفضيحة التي لا يريدك أحد أن تعرفها    الخطوط الملكية المغربية شريك دولي رسمي للكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم    أشبال الأطلس يرفعون راية المغرب عاليًا في بطولة إفريقيا + صور    "معركة رفع المعاشات" تخرج المتقاعدين مجددا للاحتجاج على الحكومة    شركة "ميرسك" تنفي نقل أسلحة إلى إسرائيل عبر ميناء طنجة المتوسط    نائب بريطاني: بوليساريو تمثل ذراعاً من أذرع النظام الإيراني في شمال إفريقيا وحان الوقت لتصنيفها منظمة إرهابية    مسعد بولس : "الموقف الأمريكي من قضية الصحراء صريح جدا ولا يتخلله أي شك أو أي لبس " /حديث خاص لقناة ميدي 1 تي في وميدي 1 راديو    العثور على جثة رجل داخل محل لبيع مواد البناء في طنجة    زيادة واردات الأفوكادو المغربية يثير قلقل الفلاحين الإسبان بفالينسيا    معهد هدسون الأمريكي: جبهة البوليساريو تهديد إرهابي عابر للحدود يستدعي تصنيفًا عاجلًا    مغنية تتقيأ خلال عرضها في "كوتشيلا"    المستشار الخاص للرئيس الأمريكي: مقترح الحكم الذاتي المغربي هو الإطار الوحيد للتفاوض حول الصحراء    انعقاد المؤتمر الجهوي للاتحاد العام للفلاحين بجهة طنجة    سوء الأحوال الجوية يغلق ميناء الحسيمة    مطالب بإقرار حركة انتقالية لفائدة الأساتذة الجامعيين    معين الشعباني: نهضة بركان جاهزة لموقعة قسنطينة ونطمح لتسهيل مهمة الإياب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    الحكم الجديد في قضية التازي : براءة من الاتجار بالبشر وعقوبات مخففة للباقين    الدرهم المغربي ينخفض أمام الأورو    بلدان إفريقية تُسقط شرعية تحركات "SADC" الأحادية: دعم متجدد للوحدة الترابية للمغرب ورفض قاطع للتلاعب الانفصالي    بصمات ديناصورات وزواحف .. سرقة صخرة عمرها ملايين السنين بميدلت تشعل الغضب    أحكام بالسجن ما بين 13 و66 عاما في حق المتابعين في قضية "التآمر على أمن الدولة" في تونس    تشكيلة المنتخب الوطني لأقل من 17 سنة أمام مالي    السعودية تدشّن مشاركتها في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالمغرب 2025    لقجع يحث المنتخب الوطني على خوض النهائي أمام مالي بعزيمة وتنافسية    الساسي: أخطر ما يقع في بلداننا هو الاستهانة بفكرة الديمقراطية بمبرر أنها في الغرب نفسه تعيش أزمة    الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تُبرز أثر وثائقيات "الأولى" في إشعاع المغرب بالمعرض الدولي للنشر والكتاب    علاش الإمارات عطاوها؟ .. لطيفة رأفت تشعل إنستغرام بتعليق ساخر عن رجاء بلمير    "البرلمانات الداعمة لفلسطین" تعتزم إنشاء مجموعة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين    توقيف مواطن نرويجي مبحوث عنه دوليًا بالدار البيضاء    إطلاق أول شهادة مغربية في صيانة بطاريات السيارات الكهربائية بشراكة مع رشيد اليزمي    حملة مراقبة في إكنيون بسبب السل    لماذا قررت أن أكتب الآن؟    العربية للطيران تدشن خطا جويا جديدا بين الرباط والصويرة    الإفراج عن 10 آلاف صفحة من سجلات اغتيال روبرت كينيدي عام 1968    تكريم عمر أمرير بمعرض الكتاب.. رائدٌ صان الآداب الأمازيغيّة المغربية    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    الأبيض والأسود من تقرير دي ميستورا: إن موعدهم نونبر؟ -3-    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    وزارة الصحة تخلّد اليوم العالمي للهيموفيليا وتطلق حملة تحسيسية وطنية لمكافحة هذا المرض    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما يجمعني وما يفرقني بالغنوشي
نشر في فبراير يوم 12 - 04 - 2012

هي خطوة ناذرة أن يناقش المرزوقي رئيس الحكومة التونسي الهدية/الكتاب لراشد الغنوشي رئيس حزب النهضة الذي حصل على أعلى عدد من المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي التونسي، جميل أن تنتصر لغة الحوار رغم الاختلاف، وقد سبقها اختيار الحزب الاسلامي التونسي للمرزوقي الأمين العام لحزب "المؤتمر" برئاسة الجمهورية.
لهذا نعيد في "فبراير.كوم" نشرها في هذا الركن لما لها من أهمية تجعل لغة الحوار والتحاور والعقل اللغة السائدة بين العلماني والإسلامي.
لا يهديني أحد كتابا إلا وشعرت بضرورة الرد، سواء برسالة شكر، أو إن أعجبني النص بقراءة أنشرها. ذلك لأنني ككاتب، أعلم أن من يهديك أعز ما لديه أي عصارة الفكر والروح ينتظر منك أن تتجاوب معه ولو سلبا. أمر من التجاهل أن تسمع بكتابك معروضا في السوق للبيع، يميزه الإهداء المكتوب بخط يدك، مما يدل على قيمته لدى الذي توسمت فيه الخير.

من الطبيعي أن أكتب هذا المقال وصديق عزيز مثل الشيخ راشد الغنوشي هو الذي أهداني آخر ما قرأت بكل اهتمام "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" (دار الشروق-القاهرة 2012) ولأن علاقة الناقد بكاتب أي نص هي دوما تفاعل فكر مشبع بالرؤى والتصورات والمشاعر، مع فكر آخر مهيكل بنفس الكيفية، لا بد من كشف الخلفية التي يحاول البعض طمسها لادعاء موضوعية كاذبة.


أعرف الشيخ راشد منذ أكثر من ربع قرن، لكننا لم نتقارب إلا عندما أطلق بن علي البوليس السياسي على الإسلاميين ابتداء من سنة 1991 بمستوى من العنف لم تعرفه تونس حتى في عهد بورقيبة. فكان ما كان من معاناة لكلينا، المعروف منها للأقلية والمجهول منها للغالبية. ثم جمعتنا غربة مريرة وطويلة. ودارت بيننا العديد من النقاشات على امتداد عقدين من الزمن سواء في بيته ومكتبه بلندن، أو ذات ليلة مشهودة في بيت صديق مشترك في فرنسا (التي دخلها بشكل سري) ثم تغيرت النقاشات بعد أن عدنا ورحل الطاغية، والرهان هذه المرة ليس على التوفيق بين رؤى فلسفية وسياسية متباعدة وإنما على التوافق حول النظام السياسي الجديد في تونس الثورة.

قد يكون هناك عامل ذاتي سهل التفاهم بيننا هو أننا ننحدر من نفس الأصول الفقيرة ومن نفس القرى المهمشة في الجنوب التونسي ومن نفس التيار اليوسفي الذي هزمه بورقيبة بعيد "الاستقلال". غير أنه لا ضروريات رص الصفوف لمقاومة الديكتاتورية ولا الانتماء المشترك، ولا الرغبة الصادقة من الطرفين في بناء الجسور، استطاعت طمس اختلافات جذرية على الصعيد الفكري. هكذا بنينا على مر السنين علاقة تتميز بالتباين المزمن والتفاهم المتواصل، ومن ثَم لا غرابة أن أكتشف -وأنا أقرأ الكتاب- كل ما يفرقنا إلى جانب كل ما يجمعنا.

نقاط التوافق ثلاث
قول الشيخ "لا يسعه (أي الإسلام) إلا أن يسعد ويرحب بما ارتقى له وعي البشرية .... بوصف ذلك بعض ما تتشوف له رسالته بما يجعل اتجاه التوافق بين تلك الإعلانات والعهود (لحقوق الإنسان) مع قيم ومبادئ الإسلام هو الاتجاه العام والاختلاف هو الاستثناء" (ص 103)، كم نحن بحاجة إلى توسع مثل هذا التفكير في عالم نخر فيه التعصب، وهو دوما المدخل لعنف ضجرت منه وضجت به البشرية!

قوله أيضا:
"لا يليق بالباحث المسلم في النظام الإسلامي أن يقف موقف المأخوذ المنبهر أمام أي إبدع حضاري يحطب منه -كحاطب ليل- حلوه ومره، ما يليق به، في الآن نفسه أن يتحرج ويستنكف من الأخذ بكل كلمة اتفق عليها عقل بشري وأثبتت جدواها تجربة حضارية حتى يندرج في سلك أولي الألباب" (ص39)

ثم هذه الجملة التي كان بوسعي أن أكون كاتبها، بنفس العبارات تقريبا "فإن المستقبل سيسلم قيادته على الأرجح للأمم الأقدر على الإبداع والتجدد الفكري والإقناع والحوار وتقديم ما ينفع الناس، والأقدر في المحصلة على المقاومة والتغيير والفداء" (ص 28).

نعم يجب أن نعود لساحة الإبداع لتدارك كل هذه القرون من التخلف، نعم يجب أن نجدد مخزوننا الحضاري، أن نترك الاجترار، بما في ذلك اجترار أمجادنا الماضية، الحقيقية منها والكاذبة، لا مجال لهذا إلا باستعادة الثقة في أنفسنا، إلا بفتح النوافذ على العالم... بتعلم الصينية والروسية واليابانية والأوردية ولغة الزولو والمايا... بالأخذ من كل الثقافات البشرية بامتنان وإعطائها بكرم... بجعل شعارنا قول الإمام علي بن أبي طالب:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا *** يغنيك مضمونه عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي

****

والآن إلى نقاط الاختلاف الثلاث وهذه تستوجب بعض الشرح.
1- العلمانية
في الجزء الأول (ص 37) يكتب الشيخ "وبذلك كانت حجة الواقع أبلغ من كل جدل في الرد على دعاوى العلمانيين ومساعيهم في علمنة الإسلام وتفريغه من جوهر رسالته" ويواصل نفس الفكرة (ص 38) "هذا دون الغض من قيمة الجهود الكبرى التي يبذلها علماء الإسلام ومفكروه في التصدي لتيار العلمانية ودحضه بحجة المنطق".

لا أريد العودة لنقاش المفهوم (انظر على الجزيرة نت: "العلمانية مفهوم للترك أو للتبني") أذكر فقط أنه يعني في منظوري حماية الدولة من المستبدين باسم الدين (أفغانستان طالبان) وحماية الدين من المستبدين باسم الدولة (تونس بن علي)... أنه لا علاقة له بالإلحاد... إنه من الأحسن تفاديا للخلط أن نتحدث عن الفكر المدني.

"
بصراحة أنا أكره فكرة أن الشيخ ينظر إلي بعقله الباطني على أن الله يوم يفتح علي ويهديني إلى الحق سأترك "دعاوى" العلمانيين إلى حقائق الإسلاميين
"
ما أريد التعليق عليه وصف الشيخ لمواقف المجموعة الفكرية التي أنتمي إليها بأنها "دعاوى" وأن هناك من "دحضها بحجة المنطق". كأن الشيخ ومن معه ما زالوا على مقولة "موقفي صواب قد يحتمل بعض الخطأ وموقفك خطأ قد يحتمل بعض الصواب!" بصراحة أنا أكره فكرة أن الشيخ ينظر إلي بعقله الباطني على أن الله يوم يفتح علي ويهديني إلى الحق سأترك "دعاوى" العلمانيين إلى حقائق الإسلاميين.

رأيي أن الموضوع لا علاقة له البتة بدعاوى وحقائق، ولا بخطأ من نصيب هذا وصواب لا يملكه إلا ذاك. فكريا نحن أمام تعقيد العالم الرهيب وتغيراته المتواصلة، متساوون في الخطأ والصواب. عقائديا الإسلام هو منبع نشرب منه جميعا وليس وقفا على أحد، اجتماعيا وسياسيا كلنا ندافع عن مبادئ مصالحنا ومصالح مبادئنا.

الأهم أننا جميعا تحت وطأة قانون: التعددية هي وإلى الأبد الحالة الطبيعية لأي مجتمع. هذه الظاهرة القارة لها سبب ذاتي: حب البشر للمشاكسة والتميز. هي نتيجة ظروف موضوعية داخلية وبالأساس نتيجة تباين الرؤى والمصالح والإستراتيجيات لحل مشاكل الأفراد والمجموعات في مجتمع محدود الموارد.

ثمة أيضا دور العوامل الخارجية، أي تأثير المجتمعات بعضها على بعض، إذ هي لا تنفك تتبادل الجينات والمعلومات والقيم، إن سلما وإن حربا. هذه التعددية هي التي أعطتنا في الماضي السنة والشيعة وداخل كل مذهب المدارس الفقهية المتنافسة. هي التي تفجر اليوم المنظومة الإسلامية إلى إسلام دعوي وإسلام سياسي، وهذا الأخير إلى إسلام سياسي معتدل وآخر متشدد، وداخل المتشدد إلى سلفية دعوية وسلفية جهادية، والكل يشكك بفهم الآخر للإسلام أو حتى يكفره.

هي التي تعطينا العلمانيين والإسلاميين، لأن مجتمعنا التونسي يحمل بقوة بصمات تأثير الشرق الإسلامي وبقوة موازية بصمات الغرب الأوروبي، ومن ثم وجود مفكرين إسلاميين ومفكرين علمانيين. ليست المسألة إذن قصورا في تفكير الآخر يمكن "دحضه بالمنطق" وإنما هي ترجمة كل فكر لما يعتمل داخل المجتمع من مشاريع متناقضة يجب تصريفها سلميا، بعد أن أثبتت التجربة التاريخية عبثية الأحادية وما تكلفه من ثمن باهظ من الدم والدموع. أما المفهوم الذي يدخله الشيخ "التعددية في إطار الإجماع" (الجزء الثاني ص150) فيبدو لي متناقضا حيث لا تظهر التعددية إلا لاستحالة الإجماع. هو مطالَب برفع كل التباس حتى لا يبدو -وهو المقر بوجود وشرعية التعددية- وكأنه يعطي باليد اليمنى ليسترجع باليسرى.

****
2- مادية الغرب
يقول الشيخ (ص 49)
"إن الفكر الغربي في جوهره واتجاهه العام لا يقر بغير المادة وحركتها، مما يجعل هذا الكائن المسمى إنسانا لا يعدو أن يكون لحظة متقدمة في حركة تطور المادة".

رأيي أن الشيخ لم ينظر إلا للنصف الفارغ من الكأس، هناك فعلا تيار قوي أعطى للفكر الغربي تصوره المادي للإنسان، ومن أبرز رموزه بايكون وقاليلي ونيوتن وداروين وماركس وفرويد. لكن تلك الحضارة لا تقتصر على العلوم والفلسفة والتكنولوجيا. من يتصور الغرب دون الكاتدرئيات الضخمة، مثل كاتدرائية باريس وكولن وشارتر وستراسبورغ وفلورانس، وكلها من روائع الفن المعماري العالمي، وقد استغرق بناء بعضها قرونا كاملة؟ من يتصوره دون لوحات مايكل أنغلو ورافايل ومئات الفنانين، وموضوعها الغالب صلب المسيح؟ من يعرف أن عظماء موسيقاه مثل باخ وهاندل وفيفالدي وموزار وبتهوفن وبراهمز كتبوا كلهم الموسيقى الكنائسية من نوع Messe أوRequiem. عندما يستمع التونسيون لموسيقى بتهوفن يعزفها الأوركسترا السيمفوني في المسرح البلدي دونما أدنى تنهيدة إعجاب، ملتزمين صمتا تاما، فإنهم لا يعلمون أنهم يواصلون خشوعا دينيا. فالموسيقى الكلاسيكية الغربية في جزء منها وريثة القصور وفي جزء أكبر وريثة الكنائس.

"
ما يضايقني دوما في الكثير من كتاباتنا عن الغرب(القومية منها أو الإسلامية) عمق العلاقة المرضية التي تربطنا به, إذ نعمل بالمثل الشعبي: كل الغلة وسب الملة. أو بالمثل الآخر: لا نحبّك، لا نطيق فراقك
"
الحقيقة أن الثقافة الغربية مشبعة إلى درجة كبيرة بالدين ولها منحى روحاني عميق ومتأصل. والظاهرة قارة في كل الثقافات الكبرى، أي تواجد تيارين متناقضين الروحاني والمادي، ولو بنسب مختلفة حسب الظرف الزمني. إذا تأملنا كأسنا نحن، فسنجد أن فيه بالطبع التيار الروحاني الذي نعرف، لكن فيه أيضا التيار المادي الذي ننسب ونتجاهل، هذا التيار الذي مثله أحسن تمثيل المعري وابن المقفع وابن خلدون أو قريبا منا صادق جلال العظم.

ما يضايقني دوما في الكثير من كتاباتنا عن الغرب (القومية منها أو الإسلامية) عمق العلاقة المرضية التي تربطنا به، إذ نعمل بالمثل الشعبي "كل الغلة وسب الملة" أو بالمثل الآخر "لا نحبك، لا نطيق فراقك".

ثمة دوما في الكتابة عنه والتعامل معه إما إنكار مبالغ فيه وإما تبعية مقيتة. آن الأوان والغرب بصدد فقدان سيطرة لم تدم إلا 500 سنة (على عشرة آلاف سنة حضارة) والعالم يعود لتعددية واعدة والثورة العربية تعيدنا لساحة التاريخ، أن نخرج من هذه الثنائية لنبني معه علاقة نضج تكون أكثر استقلالية وأقل حفيظة.

****

3- علوية الإسلام في ميدان حقوق الإنسان
عنوان الكتاب هو "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" عن أي دولة إسلامية يتحدث الكاتب: التي عرفناها طيلة 15 قرنا وكانت -ولا تزال في بعض البلدان- دولة استبدادية بقناع إسلامي، أم الدولة الإسلامية المرتقبة حتى لا أقول الخيالية؟ هل لي أن أذكر بأن العقد السياسي المبرم في تونس اليوم مع الإسلاميين هو بناء الدولة المدنية وليس بناء الدولة الإسلامية! ربما كان من الأصلح أن يكون العنوان "الحريات العامة في الإسلام" خاصة أن هذا هو فحوى الكتاب.

ما يطرح لي إشكالا منهجية المؤلف في التعاطي مع القضية هو يستعرض الحق في المساواة (ص68) وحرية العقيدة (ص70) وحرية الفكر (ص80) والحقوق الاقتصادية (ص81-90) والحق في القضاء العادل (ص 100)، ليخلص إلى أن كل هذا موجود في القرآن بل وبكيفية أشمل وأعمق مما يقدمه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فبخصوص حق المعتقد مثلا يذكر المؤلف ببعض الآيات البينات "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" او "لا إكراه في الدين" (صدق الله العظيم). ثم يكشف بخصوص الحرية عن مصدر تفوق الإسلام على النصوص الوضعية حيث يقول "إذا كانت إعلانات حقوق الإنسان في إطار الفلسفة المادية والمذهب الرأسمالي مجرد كفالات للبرجوازية ضد الإقطاع والبابوية قد تكشفت في النهاية عما تنطوي عليه من زيف ومحدودية....... فإن تصور الإسلام للحرية لا ينطلق من طبيعة للإنسان تنبثق عنها ذاتها حقوق طبيعية كما يدعي الفكر الغربي وإنما الحقيقة التي ينطق باسمها كل شيء في هذا الكون، إنه الله خالق هذا الكون ومالكه" (ص53)

ثمة مشكلتان في مثل هذا الطرح، الأولى متعلقة برؤية الإسلاميين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومشتقاته من عهود ومواثيق دولية، في كتاب صادره البوليس السياسي في بداية التسعينيات، عنوانه "الإنسان الحرام" ويمكن مراجعته على موقعي، قدمت قراءة للإعلان انطلاقا من دراسة تاريخية.

من يتذكر أن الصينيين هم الذين رفضوا للغربيين وللمسلمين ذكر الله في الديباجة، لكن أهل الديانات السماوية الثلاث فرضوا جملة الحقوق التي تعدها هذه الديانات مركزية في تعاليمها... إن الفاتيكان حاول أن يفرض منع الطلاق ورفض طلبه... إن السوفيات فرضوا الحقوق الاقتصادية على الغربيين لكنهم فشلوا في فرض حق الشعوب في الاستقلال والسيادة على مواردها الطبيعية (وهي الحقوق التي ستضمن لاحقا في معاهدات 1966)... إن هؤلاء فرضوا على السوفيات الحريات الفردية والعامة؟ مما يعني أن الإعلان لا يختزل في "الفلسفة المادية والمذهب الرأسمالي".

هو ليس إملاء غربيا وقل من يعرف حدة النقاشات وصعوبة عملية البيع والشراء التي رافقت صياغته، هو نتيجة وفاق صعب بين الثقافات الكبرى ومنها ثقافتنا العربية الإسلامية، فرضته ضروريات العيش المشترك في عالم متزايد الترابط، ففي ظل تعددية العالم الدينية والأيديولوجية والسياسية، وفي ظل استحالة أسلمة أو تمسيح أو تهويد... إلخ كل البشرية، واعتبارا لضرورة إيجاد أرضية مشتركة بين ثقافات متعددة، تكون تكملة ومتابعة لكل المشاريع العظمى التي جاءت بها مختلف الثقافات البشرية، لم يكن هناك من خيار غير تدبيج وثيقة مشتركة وبتزكية منها جميعا ومساهمتها في الصياغة.

مثل هذه الرؤية الموضوعية تنزع كل أسباب العدوانية المقَنعة والقبول الممتعض لبعض الإسلاميين. والإعلان كما نرى ليس منافسا أو بديلا إنما هو نص جماعي تفاهمنا عليه مع بقية مكونات العائلة البشرية لكي تكون لنا لغة مشتركة ومشاريع متفق عليها، حتى وإن بدت مغالية في المثالية والتفاؤل مثل تمكين كل البشر من حقوق ما زالوا بعيدين عنها كل البعد.

المشكلة الثانية تتعلق بالإسلام نفسه، كأن قيمته في اكتشافه لقيم حقوق الإنسان قبل كل النصوص الوضعية، وفي إرسائه لها على دعامات أصلب وأشرف، دون أن يشعر وضع الشيخ الإسلام في موضع منافسة مع نصوص لم تدع يوما أنها تؤسس لدين جديد أو أن لها أدنى قدسية. منهجية تذكر ببعض الذين كانوا يكتشفون في القرآن أسبقيته على كل اكتشاف علمي يعلن عنه وكأن قيمة القرآن تزداد باكتشافه هذه الحقيقة أو تلك قبل علماء الفيزياء والكيمياء.

"
عظمة الإسلام لا علاقة لها بسبق في هذا المضمار أو ذاك وإنما في كونه الطريق الذي ينتهجه أكثر من مليار من البشر ليمارسوا إنسانيتهم وإظهار جدارتهم بالكرامة التي حباهم بها الخالق عز وجل
"
إن عظمة الإسلام لا علاقة لها بسبق في هذا المضمار أو ذاك وإنما في كونه الطريق الذي ينتهجه أكثر من مليار من البشر ليمارسوا إنسانيتهم وإظهار جدارتهم بالكرامة التي حباهم بها الخالق عز وجل.

لما سئل غاندي عن سبب تعدد الأديان والله واحد، قال تصوروا أنه أعلى قمة لأعلى جبل والبشر يعيشون على السفح وهمهم الأوحد التوجه إليه. ثمة أكثر من طريق إلى القمة، من الجهة الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية، لكنه متجه دوما إلى فوق. الرائع في هذه الصورة أن كل الطرق متساوية لأنها تتجه لنفس الهدف وأنه بقدر ما يتعالى البشر بقدر ما يقتربون بعضهم من بعض.

ربما هذا ما جعل كبار الناسكين، مهما كانت ديانتهم، يقولون تقريبا نفس الكلام، وهم يبتعدون عن السفح حيث الدين طقوس وعادات ومصالح، ويقتربون بأرواحهم وعقولهم من مصدر كل نور، لعل أبلغهم في لغتنا ابن العربي الذي قال:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة *** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف *** وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدينِ الحب أنى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني

****

وفي الختام..
لا الاتفاق على جملة من الأفكار ولا الاختلاف حول أخرى يغير شيئا من العلاقة التي ربطتني وتربطني بالشيخ: المودة والاحترام، ذلك لأن أهم ما جمع ويجمع بيننا الاشتراك في نفس القيم. كل الأفكار تبلى أو تتسخ ومن ثمة غيرها كما تغير ثيابك الداخلية، أما القيم فهي العلامات الثابتة عندما يضيع الطريق في الضباب ومن ثم تمسك بها تمسكك بجلدك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.