الهذيان العصابي لتبون وعقدة الملكية والمغرب لدى حاكم الجزائر    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب        جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    «كوب-29».. الموافقة على «ما لا يقل» عن 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    الدرهم "شبه مستقر" مقابل الأورو    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سجال فكري بين المرزوقي والغنوشي: هذه هي نقاط التوافق والاختلاف بيني وبينك
نشر في لكم يوم 12 - 04 - 2012

لا يهديني أحد كتابا إلا وشعرت بضرورة الرد، سواء برسالة شكر، أو إن أعجبني النص بقراءة أنشرها. ذلك لأنني ككاتب، أعلم أن من يهديك أعز ما لديه أي عصارة الفكر والروح ينتظر منك أن تتجاوب معه ولو سلبا. أمر من التجاهل أن تسمع بكتابك معروضا في السوق للبيع، يميزه الإهداء المكتوب بخط يدك، مما يدل على قيمته لدى الذي توسمت فيه الخير.
من الطبيعي أن أكتب هذا المقال وصديق عزيز مثل الشيخ راشد الغنوشي هو الذي أهداني آخر ما قرأت بكل اهتمام "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" (دار الشروق-القاهرة 2012) ولأن علاقة الناقد بكاتب أي نص هي دوما تفاعل فكر مشبع بالرؤى والتصورات والمشاعر، مع فكر آخر مهيكل بنفس الكيفية، لا بد من كشف الخلفية التي يحاول البعض طمسها لادعاء موضوعية كاذبة.
أعرف الشيخ راشد منذ أكثر من ربع قرن، لكننا لم نتقارب إلا عندما أطلق بن علي البوليس السياسي على الإسلاميين ابتداء من سنة 1991 بمستوى من العنف لم تعرفه تونس حتى في عهد بورقيبة. فكان ما كان من معاناة لكلينا، المعروف منها للأقلية والمجهول منها للغالبية. ثم جمعتنا غربة مريرة وطويلة. ودارت بيننا العديد من النقاشات على امتداد عقدين من الزمن سواء في بيته ومكتبه بلندن، أو ذات ليلة مشهودة في بيت صديق مشترك في فرنسا (التي دخلها بشكل سري) ثم تغيرت النقاشات بعد أن عدنا ورحل الطاغية، والرهان هذه المرة ليس على التوفيق بين رؤى فلسفية وسياسية متباعدة وإنما على التوافق حول النظام السياسي الجديد في تونس الثورة.
قد يكون هناك عامل ذاتي سهل التفاهم بيننا هو أننا ننحدر من نفس الأصول الفقيرة ومن نفس القرى المهمشة في الجنوب التونسي ومن نفس التيار اليوسفي الذي هزمه بورقيبة بعيد "الاستقلال". غير أنه لا ضروريات رص الصفوف لمقاومة الديكتاتورية ولا الانتماء المشترك، ولا الرغبة الصادقة من الطرفين في بناء الجسور، استطاعت طمس اختلافات جذرية على الصعيد الفكري. هكذا بنينا على مر السنين علاقة تتميز بالتباين المزمن والتفاهم المتواصل، ومن ثَم لا غرابة أن أكتشف -وأنا أقرأ الكتاب- كل ما يفرقنا إلى جانب كل ما يجمعنا.
نقاط التوافق ثلاث
قول الشيخ "لا يسعه (أي الإسلام) إلا أن يسعد ويرحب بما ارتقى له وعي البشرية .... بوصف ذلك بعض ما تتشوف له رسالته بما يجعل اتجاه التوافق بين تلك الإعلانات والعهود (لحقوق الإنسان) مع قيم ومبادئ الإسلام هو الاتجاه العام والاختلاف هو الاستثناء" (ص 103)، كم نحن بحاجة إلى توسع مثل هذا التفكير في عالم نخر فيه التعصب، وهو دوما المدخل لعنف ضجرت منه وضجت به البشرية!
قوله أيضا:
"لا يليق بالباحث المسلم في النظام الإسلامي أن يقف موقف المأخوذ المنبهر أمام أي إبدع حضاري يحطب منه -كحاطب ليل- حلوه ومره، ما يليق به، في الآن نفسه أن يتحرج ويستنكف من الأخذ بكل كلمة اتفق عليها عقل بشري وأثبتت جدواها تجربة حضارية حتى يندرج في سلك أولي الألباب" (ص39)
ثم هذه الجملة التي كان بوسعي أن أكون كاتبها، بنفس العبارات تقريبا "فإن المستقبل سيسلم قيادته على الأرجح للأمم الأقدر على الإبداع والتجدد الفكري والإقناع والحوار وتقديم ما ينفع الناس، والأقدر في المحصلة على المقاومة والتغيير والفداء" (ص 28).
نعم يجب أن نعود لساحة الإبداع لتدارك كل هذه القرون من التخلف، نعم يجب أن نجدد مخزوننا الحضاري، أن نترك الاجترار، بما في ذلك اجترار أمجادنا الماضية، الحقيقية منها والكاذبة، لا مجال لهذا إلا باستعادة الثقة في أنفسنا، إلا بفتح النوافذ على العالم... بتعلم الصينية والروسية واليابانية والأوردية ولغة الزولو والمايا... بالأخذ من كل الثقافات البشرية بامتنان وإعطائها بكرم... بجعل شعارنا قول الإمام علي بن أبي طالب:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا *** يغنيك مضمونه عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي
****
والآن إلى نقاط الاختلاف الثلاث وهذه تستوجب بعض الشرح.
1- العلمانية
في الجزء الأول (ص 37) يكتب الشيخ "وبذلك كانت حجة الواقع أبلغ من كل جدل في الرد على دعاوى العلمانيين ومساعيهم في علمنة الإسلام وتفريغه من جوهر رسالته" ويواصل نفس الفكرة (ص 38) "هذا دون الغض من قيمة الجهود الكبرى التي يبذلها علماء الإسلام ومفكروه في التصدي لتيار العلمانية ودحضه بحجة المنطق".
لا أريد العودة لنقاش المفهوم (انظر على الجزيرة نت: "العلمانية مفهوم للترك أو للتبني") أذكر فقط أنه يعني في منظوري حماية الدولة من المستبدين باسم الدين (أفغانستان طالبان) وحماية الدين من المستبدين باسم الدولة (تونس بن علي)... أنه لا علاقة له بالإلحاد... إنه من الأحسن تفاديا للخلط أن نتحدث عن الفكر المدني.
ما أريد التعليق عليه وصف الشيخ لمواقف المجموعة الفكرية التي أنتمي إليها بأنها "دعاوى" وأن هناك من "دحضها بحجة المنطق". كأن الشيخ ومن معه ما زالوا على مقولة "موقفي صواب قد يحتمل بعض الخطأ وموقفك خطأ قد يحتمل بعض الصواب!" بصراحة أنا أكره فكرة أن الشيخ ينظر إلي بعقله الباطني على أن الله يوم يفتح علي ويهديني إلى الحق سأترك "دعاوى" العلمانيين إلى حقائق الإسلاميين.
رأيي أن الموضوع لا علاقة له البتة بدعاوى وحقائق، ولا بخطأ من نصيب هذا وصواب لا يملكه إلا ذاك. فكريا نحن أمام تعقيد العالم الرهيب وتغيراته المتواصلة، متساوون في الخطأ والصواب. عقائديا الإسلام هو منبع نشرب منه جميعا وليس وقفا على أحد، اجتماعيا وسياسيا كلنا ندافع عن مبادئ مصالحنا ومصالح مبادئنا.
الأهم أننا جميعا تحت وطأة قانون: التعددية هي وإلى الأبد الحالة الطبيعية لأي مجتمع. هذه الظاهرة القارة لها سبب ذاتي: حب البشر للمشاكسة والتميز. هي نتيجة ظروف موضوعية داخلية وبالأساس نتيجة تباين الرؤى والمصالح والإستراتيجيات لحل مشاكل الأفراد والمجموعات في مجتمع محدود الموارد.
ثمة أيضا دور العوامل الخارجية، أي تأثير المجتمعات بعضها على بعض، إذ هي لا تنفك تتبادل الجينات والمعلومات والقيم، إن سلما وإن حربا. هذه التعددية هي التي أعطتنا في الماضي السنة والشيعة وداخل كل مذهب المدارس الفقهية المتنافسة. هي التي تفجر اليوم المنظومة الإسلامية إلى إسلام دعوي وإسلام سياسي، وهذا الأخير إلى إسلام سياسي معتدل وآخر متشدد، وداخل المتشدد إلى سلفية دعوية وسلفية جهادية، والكل يشكك بفهم الآخر للإسلام أو حتى يكفره.
هي التي تعطينا العلمانيين والإسلاميين، لأن مجتمعنا التونسي يحمل بقوة بصمات تأثير الشرق الإسلامي وبقوة موازية بصمات الغرب الأوروبي، ومن ثم وجود مفكرين إسلاميين ومفكرين علمانيين. ليست المسألة إذن قصورا في تفكير الآخر يمكن "دحضه بالمنطق" وإنما هي ترجمة كل فكر لما يعتمل داخل المجتمع من مشاريع متناقضة يجب تصريفها سلميا، بعد أن أثبتت التجربة التاريخية عبثية الأحادية وما تكلفه من ثمن باهظ من الدم والدموع. أما المفهوم الذي يدخله الشيخ "التعددية في إطار الإجماع" (الجزء الثاني ص150) فيبدو لي متناقضا حيث لا تظهر التعددية إلا لاستحالة الإجماع. هو مطالَب برفع كل التباس حتى لا يبدو -وهو المقر بوجود وشرعية التعددية- وكأنه يعطي باليد اليمنى ليسترجع باليسرى.
****
2- مادية الغرب
يقول الشيخ (ص 49)
"إن الفكر الغربي في جوهره واتجاهه العام لا يقر بغير المادة وحركتها، مما يجعل هذا الكائن المسمى إنسانا لا يعدو أن يكون لحظة متقدمة في حركة تطور المادة".
رأيي أن الشيخ لم ينظر إلا للنصف الفارغ من الكأس، هناك فعلا تيار قوي أعطى للفكر الغربي تصوره المادي للإنسان، ومن أبرز رموزه بايكون وقاليلي ونيوتن وداروين وماركس وفرويد. لكن تلك الحضارة لا تقتصر على العلوم والفلسفة والتكنولوجيا. من يتصور الغرب دون الكاتدرئيات الضخمة، مثل كاتدرائية باريس وكولن وشارتر وستراسبورغ وفلورانس، وكلها من روائع الفن المعماري العالمي، وقد استغرق بناء بعضها قرونا كاملة؟ من يتصوره دون لوحات مايكل أنغلو ورافايل ومئات الفنانين، وموضوعها الغالب صلب المسيح؟ من يعرف أن عظماء موسيقاه مثل باخ وهاندل وفيفالدي وموزار وبتهوفن وبراهمز كتبوا كلهم الموسيقى الكنائسية من نوع Messe أوRequiem. عندما يستمع التونسيون لموسيقى بتهوفن يعزفها الأوركسترا السيمفوني في المسرح البلدي دونما أدنى تنهيدة إعجاب، ملتزمين صمتا تاما، فإنهم لا يعلمون أنهم يواصلون خشوعا دينيا. فالموسيقى الكلاسيكية الغربية في جزء منها وريثة القصور وفي جزء أكبر وريثة الكنائس.
الحقيقة أن الثقافة الغربية مشبعة إلى درجة كبيرة بالدين ولها منحى روحاني عميق ومتأصل. والظاهرة قارة في كل الثقافات الكبرى، أي تواجد تيارين متناقضين الروحاني والمادي، ولو بنسب مختلفة حسب الظرف الزمني. إذا تأملنا كأسنا نحن، فسنجد أن فيه بالطبع التيار الروحاني الذي نعرف، لكن فيه أيضا التيار المادي الذي ننسب ونتجاهل، هذا التيار الذي مثله أحسن تمثيل المعري وابن المقفع وابن خلدون أو قريبا منا صادق جلال العظم.
ما يضايقني دوما في الكثير من كتاباتنا عن الغرب (القومية منها أو الإسلامية) عمق العلاقة المرضية التي تربطنا به، إذ نعمل بالمثل الشعبي "كل الغلة وسب الملة" أو بالمثل الآخر "لا نحبك، لا نطيق فراقك".
ثمة دوما في الكتابة عنه والتعامل معه إما إنكار مبالغ فيه وإما تبعية مقيتة. آن الأوان والغرب بصدد فقدان سيطرة لم تدم إلا 500 سنة (على عشرة آلاف سنة حضارة) والعالم يعود لتعددية واعدة والثورة العربية تعيدنا لساحة التاريخ، أن نخرج من هذه الثنائية لنبني معه علاقة نضج تكون أكثر استقلالية وأقل حفيظة.
****
3- علوية الإسلام في ميدان حقوق الإنسان
عنوان الكتاب هو "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" عن أي دولة إسلامية يتحدث الكاتب: التي عرفناها طيلة 15 قرنا وكانت -ولا تزال في بعض البلدان- دولة استبدادية بقناع إسلامي، أم الدولة الإسلامية المرتقبة حتى لا أقول الخيالية؟ هل لي أن أذكر بأن العقد السياسي المبرم في تونس اليوم مع الإسلاميين هو بناء الدولة المدنية وليس بناء الدولة الإسلامية! ربما كان من الأصلح أن يكون العنوان "الحريات العامة في الإسلام" خاصة أن هذا هو فحوى الكتاب.
ما يطرح لي إشكالا منهجية المؤلف في التعاطي مع القضية هو يستعرض الحق في المساواة (ص68) وحرية العقيدة (ص70) وحرية الفكر (ص80) والحقوق الاقتصادية (ص81-90) والحق في القضاء العادل (ص 100)، ليخلص إلى أن كل هذا موجود في القرآن بل وبكيفية أشمل وأعمق مما يقدمه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فبخصوص حق المعتقد مثلا يذكر المؤلف ببعض الآيات البينات "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" او "لا إكراه في الدين" (صدق الله العظيم). ثم يكشف بخصوص الحرية عن مصدر تفوق الإسلام على النصوص الوضعية حيث يقول "إذا كانت إعلانات حقوق الإنسان في إطار الفلسفة المادية والمذهب الرأسمالي مجرد كفالات للبرجوازية ضد الإقطاع والبابوية قد تكشفت في النهاية عما تنطوي عليه من زيف ومحدودية....... فإن تصور الإسلام للحرية لا ينطلق من طبيعة للإنسان تنبثق عنها ذاتها حقوق طبيعية كما يدعي الفكر الغربي وإنما الحقيقة التي ينطق باسمها كل شيء في هذا الكون، إنه الله خالق هذا الكون ومالكه" (ص53)
ثمة مشكلتان في مثل هذا الطرح، الأولى متعلقة برؤية الإسلاميين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومشتقاته من عهود ومواثيق دولية، في كتاب صادره البوليس السياسي في بداية التسعينيات، عنوانه "الإنسان الحرام" ويمكن مراجعته على موقعي، قدمت قراءة للإعلان انطلاقا من دراسة تاريخية.
من يتذكر أن الصينيين هم الذين رفضوا للغربيين وللمسلمين ذكر الله في الديباجة، لكن أهل الديانات السماوية الثلاث فرضوا جملة الحقوق التي تعدها هذه الديانات مركزية في تعاليمها... إن الفاتيكان حاول أن يفرض منع الطلاق ورفض طلبه... إن السوفيات فرضوا الحقوق الاقتصادية على الغربيين لكنهم فشلوا في فرض حق الشعوب في الاستقلال والسيادة على مواردها الطبيعية (وهي الحقوق التي ستضمن لاحقا في معاهدات 1966)... إن هؤلاء فرضوا على السوفيات الحريات الفردية والعامة؟ مما يعني أن الإعلان لا يختزل في "الفلسفة المادية والمذهب الرأسمالي".
هو ليس إملاء غربيا وقل من يعرف حدة النقاشات وصعوبة عملية البيع والشراء التي رافقت صياغته، هو نتيجة وفاق صعب بين الثقافات الكبرى ومنها ثقافتنا العربية الإسلامية، فرضته ضروريات العيش المشترك في عالم متزايد الترابط، ففي ظل تعددية العالم الدينية والأيديولوجية والسياسية، وفي ظل استحالة أسلمة أو تمسيح أو تهويد... إلخ كل البشرية، واعتبارا لضرورة إيجاد أرضية مشتركة بين ثقافات متعددة، تكون تكملة ومتابعة لكل المشاريع العظمى التي جاءت بها مختلف الثقافات البشرية، لم يكن هناك من خيار غير تدبيج وثيقة مشتركة وبتزكية منها جميعا ومساهمتها في الصياغة.
مثل هذه الرؤية الموضوعية تنزع كل أسباب العدوانية المقَنعة والقبول الممتعض لبعض الإسلاميين. والإعلان كما نرى ليس منافسا أو بديلا إنما هو نص جماعي تفاهمنا عليه مع بقية مكونات العائلة البشرية لكي تكون لنا لغة مشتركة ومشاريع متفق عليها، حتى وإن بدت مغالية في المثالية والتفاؤل مثل تمكين كل البشر من حقوق ما زالوا بعيدين عنها كل البعد.
المشكلة الثانية تتعلق بالإسلام نفسه، كأن قيمته في اكتشافه لقيم حقوق الإنسان قبل كل النصوص الوضعية، وفي إرسائه لها على دعامات أصلب وأشرف، دون أن يشعر وضع الشيخ الإسلام في موضع منافسة مع نصوص لم تدع يوما أنها تؤسس لدين جديد أو أن لها أدنى قدسية. منهجية تذكر ببعض الذين كانوا يكتشفون في القرآن أسبقيته على كل اكتشاف علمي يعلن عنه وكأن قيمة القرآن تزداد باكتشافه هذه الحقيقة أو تلك قبل علماء الفيزياء والكيمياء.
إن عظمة الإسلام لا علاقة لها بسبق في هذا المضمار أو ذاك وإنما في كونه الطريق الذي ينتهجه أكثر من مليار من البشر ليمارسوا إنسانيتهم وإظهار جدارتهم بالكرامة التي حباهم بها الخالق عز وجل.
لما سئل غاندي عن سبب تعدد الأديان والله واحد، قال تصوروا أنه أعلى قمة لأعلى جبل والبشر يعيشون على السفح وهمهم الأوحد التوجه إليه. ثمة أكثر من طريق إلى القمة، من الجهة الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية، لكنه متجه دوما إلى فوق. الرائع في هذه الصورة أن كل الطرق متساوية لأنها تتجه لنفس الهدف وأنه بقدر ما يتعالى البشر بقدر ما يقتربون بعضهم من بعض.
ربما هذا ما جعل كبار الناسكين، مهما كانت ديانتهم، يقولون تقريبا نفس الكلام، وهم يبتعدون عن السفح حيث الدين طقوس وعادات ومصالح، ويقتربون بأرواحهم وعقولهم من مصدر كل نور، لعل أبلغهم في لغتنا ابن العربي الذي قال:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة *** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف *** وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدينِ الحب أنى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني
****
وفي الختام..
لا الاتفاق على جملة من الأفكار ولا الاختلاف حول أخرى يغير شيئا من العلاقة التي ربطتني وتربطني بالشيخ: المودة والاحترام، ذلك لأن أهم ما جمع ويجمع بيننا الاشتراك في نفس القيم. كل الأفكار تبلى أو تتسخ ومن ثمة غيرها كما تغير ثيابك الداخلية، أما القيم فهي العلامات الثابتة عندما يضيع الطريق في الضباب ومن ثم تمسك بها تمسكك بجلدك.
- المنصف المرزوقي
---
تعليق الصورة: راشد الغنوشي والمنصف الرزوقي
المصدر: الجزيرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.