هذا ما كتبته الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي على صدر صفحتها على الفايسبوك الإثنين 9 أبريل على الساعة الواحدة زوالا، تحت عنوان:رحيل الرجال النسور:غياب الأب الروحي ل"ذاكرة الجسد" إحدى روايتها الناجحة. قبل أن تكون مدينة، كانت قسنطينة بدعة الصخر العتيق، قلعة معلّقة كعشّ النسر في الأعالي، لذا وُلد أبناؤها نسوراً، يصعب عليهم معاشرة طيورٍ ليست من فصيلتهم. يا له من جيل أبيٍّ، ذلك الجيل الشامخ الذي برحيل سي عبد الحميد مهري ، آخر رفاق أبي، انتهى به زمن رجال قسنطينة النسور. رجال كان اسمهم الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومحمّد العيد آل خليفة ، ومالك بن نابي، ومالك حدّاد، وكاتب ياسين ومصطفى كاتب وآخرين . . كانوا جميلين، لهم بهاء العراقة وأناقتها، منحدرين لتوّهم من الأندلس، علماء دين، كتّاب، فلاسفة، سياسيّين، ومثقّفين، على اختلاف وجهتهم وتوجّهاتهم، واللّغة التي كتبوا بها، كانت تجمعهم النزاهة المطلقة، الأنفة، والولاء للجزائر. رحل آخرهم سي عبد الحميد مهري، أحد رجالات التاريخ، وحارس أسرار الثورة، والرجل الذي كان لنزاهته، أحد الأسماء المقترحة مع الفقيد محمد بوضياف لإنقاذ الجزائر في الأيام الصعبة.
رحل مُثقلا بأسراره، وبوجعه السرّيّ. يكفي أنّه بهامته تلك، اضطر لسنوات أن يقيم لدى ابنته، ويؤجّر بيته ليتمكّن من معالجة زوجته السورية الأصل في الخارج. كان على ثراء ماضيه، زاهداً في حاضره. هاتفته أخبره أنّني سأحل ضيفة على قسنطينة، في احتفاليّة كبيرة. كان قد أنهكه المرض، دون أن يفقد شيئا من لياقته أو فصاحته، قال بنبرةٍ أذكرها منذ عشرين سنة "سلّمي عليها" !. كما في رواياتي، كان هذا آخر ما قاله الرجل الذي، زفّني لقسنطينة يوماً، وكانت قسنطينة البطل الثالث في قصتي معه. وكما في " ذاكرة الجسد" كان يموت أثناء احتفاءها بي، فبإمكاني الآن أن أعترف أنه كان الأب الروحي ل" ذاكرة الجسد" التي كتبتها في باريس في الثمانين، يوم كان سفيراً للجزائر في فرنسا.( والتفاصيل تستحق رواية أخرى ) على مدى سنوات، نقل لي لوثة جنونه بقسنطينة، وذكرياته مع أبي، قال مرة:"كان سي الشريف حين يمرّ بمقهى النجمة، يهتف الرجال عند مروره:"يحيا مستغانمي"! كما لوكان يقول لي:"أريدك أن تحملي اسمه بعنفوان، أن يهتف الأدب باسمك وأنت تعبرين بوابة التاريخ ". وقضيتُ عمري واقفة، رافضةً الجلوس على المبادئ، وفاءً لأناسٍ لا أعرفهم هتفوا يوماً لأبي. وحياءً من رفاقه، الذين تناوبوا بعده على إسناد غصني كي لا ينحني، بعد أن أصبحتُ بالنسبة لهم رمز الجزائر الفتيّة. حياءً من الرئيس أحمد بن بلّة، ومن الفقيد ابراهيم حشاني، ومن سي عبد الحميد، قسوتُ على نفسي، وحاسبتُها أمام القيَم كما لو كنتُ من جيلهم لا من جيلي. والآن وهم يرحلون، لا أشعر باليتم بل بالغربة، لقد اشتدّ بفضلهم غُصني، ونمى بعشرَتهم ريشي، لكنّي غدوتُ طائراً غريباً، أكبر من أن يجد له بين العصافير رفيقاً!