هذا الجزء الأول من مقال الأستاذ أحمد الخطابي الباحث في العلوم الإجتماعية، الذي ينبش في ما وراء معاهدة الحماية بمناسبة مرور قرن على توقيعها. كثيرة هي المناسبات والأعياد التي يتم الاحتفال بها دون أن تعني للمغاربة أية قيمة تاريخية أو سياسية أو حتى ثقافية بمعناها الواسع، لكن بالمقابل هناك أحداث ومحطات تاريخية يتم تجاهلها حتى لا نقول نسيانها، فقبل أيام مرت ذكرى انتفاضة 23 مارس التاريخية التي كانت سببا في الكثير من التحولات التي عرفها المغرب الحديث ومنها إعلانه بعد هذه الأحداث بقليل "حالة الاستثناء"، والمُلفت في هذا الإطار هو أن الكثير من المغاربة يجهل جهلا تاما معاناة أجيال ومناطق من تداعيات ذلك (حالة الاستثناء) على التاريخ المغربي المعاصر.
السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا، إلى متى سنظل نتنكر لتاريخنا المثقل بالنضالات والمآسي؟ ألا يمكن للاعتراف به أن يعطينا نقلة نحو غد مشرق بالآمال؟ أليست المعرفة العلمية التاريخية هي المدخل الأساس نحو استشراف المستقبل؟ ألا يصنع التاريخ المستقبلي عبر الوعي به أولا والمتجلي في فهم التاريخ الماضي؟
1. في مفهوم التاريخ:
يُعرّف H. Marrou في كتابه « De la connaissance historique » التاريخ كالتالي: "التاريخ هو المعرفة العلمية المكونة عن الماضي الإنساني".
لا يعني مفهوم المعرفة هنا معنى واسع قد يقصد به الحكي أو السرد للأحداث، إنما يريد أن يجعل من المعرفة بالماضي خاصية علمية لها شروطها الإبستيمولوجية، ونحن لا نريد أن ندخل في نقاش إبيستيمولوجي أيضا حول شروط إنتاج المعرفة التاريخية، وإنما غايتنا هو التأكيد على أن المعرفة العلمية بالماضي الإنساني ممكنة، تهدف إلى محاولة كشف الدلالة الإنسانية للأحداث الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية...
تفيد هذه الدلالة الإنسانية أن الأفعال التي يقوم بها الأفراد ليست عشوائية أو تلقائية بدون قصد، بل على العكس من ذلك تماما، فالفعل الإنساني فعل واع وقصدي حامل لدلالة اجتماعية يتم إدراكها من خلال الدخول في علاقات اجتماعية، وما يحدد هذه العلاقات هو طابع التناقض، لأن الأفراد لا يختارون الدخول في هذه العلاقات بل هي تُفرض عليهم بشكل موضوعي في إطار علاقات الإنتاج المادي والرمزي.
إذا كان التاريخ بمعناه العلمي يفيد المعرفة، فهو يبتعد بذلك عن التقديس أو أية نظرة أسطورية للماضي الإنساني، لكن ما نلاحظه في التعاطي اليومي مع التاريخ هو الحضور القدسي الاحتفالي بالأحداث التاريخية عوض مساءلتها، أي مساءلة الشروط المنتجة لها. فالتاريخ يتحدد من خلال القدرة على بلورة الحقيقة وكشفها، في تعارض تام مع التمثلات والأوهام المغلوطة عن الماضي، أو الصور المُتخيّلة عنه.
يتداخل في بناء الحدث التاريخي،إذن، مكونات عديدة مرتبطة بالشروط المادية والرمزية للمجتمع، ما يجعل منه حدثا مركبا un événement complexe، يستدعي فهمه استحضار تلك الشروط في سياقاتها المختلفة، وذلك بإعادة بناء المعرفة حول الحدث، وليس إعادة تشكيل الحدث. وهنا تتجلى قيمة المعرفة التاريخية في هذا الغنى الذاتي، والانفتاح الفكري والروحي الذي يمنحنا إياه التاريخ عبر استنطاق الأحداث ومحاولة بذل مجهودات جبارة عوض استهلاك المقولات الجاهزة لأغراض إيديولوجية تخص مصلحة فئة ما تحتكر لوحدها الفهم الأحادي للتاريخ كما تراه هي وليس كما كان فعلا.
الحدث التاريخي، كما يصوره روسو في كتابه Emile ou de l'éducation، هو بمثابة لوحة تشكيلية تتداخل فيها الألوان، على المتأمل فيها أن يميز بين تلك الأوان حتى يستطيع أن يفهم دلالاتها. معنى هذا أن بناء الحدث التاريخي يتداخل فيه الذاتي بالموضوعي ولا يجب أن يكون تفسيرنا له متسرعا أو منظورا إليه من زاوية نظر واحدة ووحيدة هي تلك التي تقدمها لنا المقررات الدراسة الرسمية.
وكأن التاريخ يسير في مسار خطي كل حدث ينضاف لحدث آخر جديد يكمله ويُتممه H=p+P (التاريخ= الماضي+الحاضر)، الأمر ليس بهذه البساطة. فالأحداث التاريخية يحركها منطق عقلي موضوعي إذا أردنا أن نوظف لغة هيغل يتحتم علينا فهمه وكشفه، المتجلي في أنه حركية موضوعية نحو تحقق الروح المطلق المتجلي في الحرية. نفس هذه الحركية الموضوعية نجدها في التصور الماركسي للتاريخ باعتباره نتاج تناقض تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، مما يجعل من حركية التاريخ حركية جدلية في اتجاه التحرر، وهنا يلتقي التصور الهيجيلي مع التصور الماركسي لحركية التاريخ في بعده الغائي H=p/P. إذا قلنا أن المعرفة التاريخية ممكنة في شروط معينة، فالسؤال هو، في ماذا تفيدنا المعرفة التاريخية؟ ألا تشكل هذه المعرفة مدخلا لفهم المنطق الذي يتحرك به التاريخ؟ أليست هذه المعرفة هي التي تخلصنا من النظرة الأسطورية القدسية للتاريخ؟